حادي الأنام إلى كفالة الأيتام

بســـــــــــــــــــــم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفضل علينا بالكفالة والصلاة والسلام على صاحب الرعاية سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أهل العناية .
أما بعد:
فإن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم ،وتربية لهم تعوضهم عن فقد أبيهم ، لذا عني القرآن بِشأنهم فأنزل الله فيهم آيات قرر فيها الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته وأكد فيها النهي عن أكل ماله وتضييع حقه , منها: قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) [النساء 4/2]. وقد عدّ عليه الصلاة والسلام أكل مال اليتيم في السبع الموبقات والكبائر المهلكات .
فمن هذا المنطلق جمعت هذه الرسالة اللطيفة لتكون دليلا لمن
أراد كفالة اليتامى ، ليكن على بصيرة من أمره متنبها من التقصير
في كفالة اليتامى ، عارفا أمورها وتدبير شؤونها .
والله أسأل أن ينفع بها الجم الغفير ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .

كفالة اليتامى
تعريف اليتيم:
اليتيم في الناس يعني فقد الصبي أو الصبية أباهما قبل البلوغ ، وقد يتَمَ الصبي يَيْتِمُ فهو يتيم ، والأنثى يتيمة ، وجمعها أيتام ويتامى ، وقد يجمع اليتيم على يتامى ، وإذا بلغا زال عنهما اسم اليتيم حقيقة .
مشروعية كفالة اليتيم
أخرج الإمام البخاري " عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " وقال بإصبعيه السبابة والإبهام.
وأخرج الإمام مسلم هذا الحديث بلفظ:" كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين فـي الجنة " وجاء في شرح حديث البخاري للعسقلاني " وأخرج البزار من حديث أبي هريرة موصولا : " من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له " وهذه الرواية مفسرة لرواية :" كافل اليتيم له أو لغيره " ، وقال ابن بطال : حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ، ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك . وفي ( فيض القدير) للمناوي في شرح حديث" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " أي القائم بأمر اليتيم ومصالحه هبة من مال نفسه أو من مال اليتيم كان ذا قرابة من الكافل أم لم يكن ، في الجنة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما ، أي أن الكافل في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن درجته لا تبلغ بل تقارب درجته ، ومناسبة التشبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يبعث لقوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا ومرشدا لهم ومعلما ، وكافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل فيرشده ويعقله .
فضل كفالة اليتامى
وفي كفالة اليتامى فضل عظيم ، فقد أخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عال ثلاثة من الأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره ، وغدا وراح شاهرا سيفه في سبيل الله ، وكنت أنا وهو في الجنة إخوان كهاتين أختان ، وألصق إصبعيه السبابة والوسطى ".
وأخرج أبو داود في سننه عن سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة " جاء في شرحه في (فيض القدير): أي قام بما يحتجنه من نحو نفقة وكسوة وغيرهما فأدبهن بآداب الشريعة الإسلامية وعلمهن أمور دينهن وزوجهن من كفء عند احتياجهن للزوج وأحسن إليهن بعد الزواج بنحو صلة وزيارة فله الجنة أي مع السابقين الأولين ، قال ابن عباس : هذا من كرائم الحديث وغرره ،قال الزين العراقي : هذا الحديث تأكيد حق البنات على حق البنين لضعفهن عن القيام بمصالحهن من الاكتساب وحسن التصرف وجزالة الرأي .
وأخرج الترمذي في " جامعه " عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قبض يتيما من بيت المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة البتة إلا أن يعمل ذنبا لا يغفر "
التحذير من الإساءة لليتيم
ولكون اليتيم فاقد الأبوين ، فربما يحمل هذا الفقد كافله على عدم الاهتمام به ، بل وربما إلى الإساءة إليه ، فقد حذر الشرع من الإساءة إليه ، فقد أخرج الإمام البخاري في كتابه (الأدب المفرد) وابن ماجة في سننه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" خير بيتٍ في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ".
إيتاء اليتامى أموالهم والنهي عن أكلها
أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، ونهى عن أكلها وضمها إلى أموال كافليهم ، قال تعالى: ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )[النساء 4/2].
وليس المراد بالآية إيتاء اليتامى أموالهم في حال اليتم ، وإلا تعرضت للضياع وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد
عملا بالآية التـالية: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم )[النساء 4/6] .
وبيّن تعالى في هذه الآية وقت الإيتاء ومقدماته وهي الاختبار فأمرنا أن نختبر اليتامى قبل الإيتاء ، فإن بلغوا سن النكاح وهو بلوغ الحلم ، كما قال تعالى ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ) أي الوصول إلى حد البلوغ وهو حد التكليف والتزام الأحكام الشرعية ، وذلك إما بالاحتلام ، أو مجيء الحيض عند الأنثى ،أو بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة في رأي الشافعية وأحمد بن حنبل ، إذا بلغوا ذلك وأصبحوا راشدين أي محسنون التصرف في أموالهم حفظا وإدارة وتنمية ، فسلموهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء (الاختبار) حتى تستأنسوا منهم الرشد ،ورأى أبو حنيفة : أنه يدفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد للآية المتقدمة:(وآتوا اليتامى أموالهم).
لكن ظاهر الآية أنه لا تدفع إليهم أموالهم ، ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد ، وهو مذهب الجمهور .
والاختبار في رأي أبي حنيفة والشافعي يكون قبل البلوغ بدليل الغاية :(حتى) وفي رأي مالك : يكون بعد البلوغ .
ومعنى الاختبار قيل فيه :هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه
ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل لـه العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله ، والإهمال لذلك ، فإذا توسم الخير فلا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح لـه التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الولي تسليم جميع ماله إليه . وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عند الولي .
وقال الحسن ومجاهد وغيرهم: اختبروهم فـي عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم .
والرشد عند الشافعي: صـلاح الدين والمال ، وعند الجمهور : صلاح المال فقط .

طريقة الدفع
بيّن الله تعالى طريقة الدفع في قوله تعالى ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً )[النساء 4/6]. لأن هذا الإشهاد أبعد عن التهمة ،وأنفى للخصومة ،وأدخل في الأمانة .
وهذا الإشهـاد عملا بظـاهر الآية واجب عند المالكية والشافعية ، إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم والتقاضي ،والأمر يقتضي الوجوب ، وجعله الحنفية مندوبا ،وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين والأمين إذا ادعى الرد على من ائتمنه صدق بيمينه .
تحريم أكل مال اليتيم
نهى الله تعالى أولياء اليتامى عن أكل أموالهم من غير حاجة ضرورية مبادرة ومسارعة قبل بلوغهم ، قال تعالى( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا )[النساء 4/6] أي مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذون أموالهم منهم .
أما من كان محتاجا مضطرا إلى الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذه قبل البلوغ مقابل عمله وإشرافه : فإن كان غنياً غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته فليعفّ عن الأكل من ماله ، ومن كان فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة ، وستر العورة ، قال تعالى(ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) [النساء 4/6].
ويؤيده ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل(1) مالا، وغير أن تقي مالك ـ أو قال ـ تفدي مالك بماله ".
وأكّد الله تعالى تحريم أكل مال اليتيم في الآية الأخرى وذكّر فيها بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق ، وهو دخول النار وإحراقهم بها ، قال تعالى( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) [النساء 4/10] وهي نار مستعرة شديدة الإحراق ،وقودها الناس والحجارة وقانا الله منها .
ودلّة السنة المطهرة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر ، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وأبـو داود والنسائي عن أبي هريرة "اجتنبوا السبع الموبقات "وذكر منها:"وأكل مال اليتيم ".
الأمر بالقول السديد لليتامى
أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن ،والمنـاداة لهم بكلمة : يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك ، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم ، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع ، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم ، فيعاملونهم بمثل مـا يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم ، قال تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضِعَافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) [النساء 4/9].
تأديب اليتامى
كما أن على الكفِيل حفظ مال يتيمه وتثميره ،كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه ،فالمال يحفظه بضبطه ، والبدن يحفظه بأدبه ، روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم :إن في حجري يتيما أآكل من ماله ؟ قال: نعم غير متأثل(1) مالاً، ولا واق مالك بماله " قال : يا رسول الله أفأضربه ؟ قال:" ما كنت ضاربا منه ولدك ".
تمّ بحمد الله جمع ما تيسر جمعه حول كفالة الأيتام ، ولم أستقصي جميع ما يحويه هذا الموضوع ، ولكن اقتصرت على الأهم .
والله أسأل أن يجعل هذه الرسالة الموسومة (( بحادي الأنام إلى كفالة الأيتام )) خالصة لوجهه الكريم ويعم بها النفع العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حرر في 29 رجب 1423هـ

بقلم

راجي عفو ربه الأجل

سليمان بن يحي بن عبد الله الأهدل