بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرح الصدور و نور العقول بخير كلام رسول سيدنا محمد صلى الله عليه و على آله وصحبه أجمعين . أما بعد : فهذا شرح غزير المعنى , سهل العبارة , وضعته على الأربعين حديثاً من كلام خير البرية للشيخ عبدالله سعيد محمد عبادي اللحجي الحضرمي , التي جمعها لطلاب المدرسة الصولتية بمكة المحمية . جمعته من شروح أمهات الحديث وغيرها و اقتصرت على كل مهم متعلق بالحديث مع ذكر جملة من الفوائد و التنبيهات . علماً أن الأربعين حديثاً قد اشتملت على فضائل و مواعظ و أحكام , لهذا يحق الاعتناء بها و تعليمه و تقريرها كدروس عامة ليستفاد من محتواها . و الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين . 21/08/1429هـ الموافق 23/08/2008م بقلم راجي عفو ربه الأجل سليمان بن يحيى بن عبدالله الأهدل الحديث الأول عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( خيركم من تعلم القرآن و علمه ) رواه البخاري . الشرح : خير المتعلمين والمعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن لا في غيره إذ خير الكلام كلام الله , فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه أو المراد خيرية خاصة من هذه الجهة أي جهة حصول التعليم بعد العلم والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط ولذلك استظهروا رواية الواو على أو لاقتضائها إثبات الخيرية لمن فعل أحد الأمرين ولا شك أن الجامع بينهما مكمل لنفسه ولغيره فهو الأفضل . وقال بعض المحققين : والذي يسبق للفهم من تعلم القرآن حفظه وتعلم فقهه فالخيار من جمعهما . قال الطيبي : ولا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص فمن أخلصهما وتخلق بهما دخل في زمرة الأنبياء . الحديث الثاني عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) رواه أبو داود و النسائي . الشرح : زينوا أصواتكم بالقرآن كما يدل عليه الحديث ( زينوا بأصواتكم بالقرآن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا ) , فالزينة للصوت لا للقرآن فهو على القلب كعرضت الإبل على الحوض وأدخلت القلنسوة في رأسي ذكره البيضاوي , يعني زينوا أصواتكم بالخشية لله حال القرآن يرشد إلى ذلك قول السائل : من أحسن الناس صوتا بالقرآن يا رسول الله قال : من إذا سمعته رأيت أنه يخشى الله وقيل : بل هو حث على ترتيله ورعاية إعرابه وتحسين الصوت به وتنبيه على التحرز من اللحن والتصحيف فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلب وأشد تأثيرا وأرق لسامعه , وسماه تزيينا لأنه تزيين للفظ والمعنى . وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعث للقلوب على استماعه وتدبره والإصغاء إليه قال التوربشتي : هذا إذا لم يخرجه التغني عن التجويد ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات والحروف فإن انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهة وأما ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى فيأخذون في كلام الله مأخذهم في التشبيب والغزل فإنه من أسوأ البدع فيجب على السامع النكير وعلى التالي التعزير. الحديث الثالث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله ) رواه الإمام أحمد . الشرح : في الحديث استعارة لطيفة لأن الكفر لما منع من دخول الجنة شبه بالغلق المانع من دخول الدار ونحوها , والإتيان بالشهادة لما رفع المانع وكان سبب دخولها شبهه بالمفتاح ,. < تنبيه> قد جعل الله لكل مطلوب مفتاحا يفتح به فجعل مفتاح الصلاة الطهور ومفتاح الحج الإحرام ومفتاح البر الصدقة ومفتاح الجنة التوحيد ومفتاح العلم حسن السؤال والإصغاء ومفتاح الظفر الصبر ومفتاح المزيد الشكر ومفتاح الولاية والمحبة الذكر ومفتاح الفلاح التقوى ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة ومفتاح الإجابة الدعاء ومفتاح الرغبة في الآخرة الزهد في الدنيا ومفتاح الإيمان التفكر في مصنوعات الله ومفتاح الدخول على الله استسلام القلب والإخلاص له في الحب والبغض ومفتاح حياة القلوب تدبر القرآن والضراعة بالأسحار وترك الذنوب ومفتاح حصول الرحمة الإحسان في عبادة الحق والسعي في نفع الخلق ومفتاح الرزق السعي مع الاستغفار ومفتاح العز الطاعة ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل ومفتاح كل خير الرغبة في الآخرة ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل . وهذا باب واسع من أنفع أبواب العلم وهو معرفة مفاتيح الخير والشر ولا يقف عليه إلا الموفقون . الحديث الرابع عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : فإيذاء المسلم من نقصان الإسلام والإيذاء ضربان ضرب ظاهر بالجوارح كأخذ المال بنحو سرقة أو نهب وضرب باطن كالحسد والغل والبغض والحقد والكبر وسوء الظن والقسوة ونحو ذلك فكله مضر بالمسلم مؤذ له , وقد أمر الشرع بكف النوعين من الإيذاء وهلك بذلك خلق كثير . و ليس المهاجر حقيقة من هاجر من بلاد الكفر بل من هجر نفسه وأكرهها على الطاعة وحملها تجنب المنهي لأن النفس أشد عداوة من الكافر لقربها وملازمتها وحرصها على منع الخير فالمجاهد الحقيقي من جاهد نفسه واتبع سنة نبيه واقتفى طريقه في أقواله وأفعاله على اختلاف أحواله بحيث لا يكون له حركة ولا سكون إلا على السنة وهذه الهجرة العليا لثبوت فضلها على الدوام قال الخطابي : أراد به أن أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حق المسلمين وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم وقيل : أراد بيان علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده كما ذكر مثله في علامة المنافق أو أراد الإشارة إلى حسن معاملة العبد مع ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه فهو تنبيه بالأولى على الأولى فكأنه يقول للمهاجرين لا تتكلموا على مجرد التحول من داركم فإن الشأن إنما هو في امتثال أوامر الشرع ونواهيه فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام . الحديث الخامس عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه م سلم : ( أفضل الذكر لا إله إلا الله و أفضل الدعاء الحمد لله ) رواه النسائي و ابن ماجة و الترمذي . الشرح : أفضل الذكر لا إله إلا الله , إذ لا يصح الإيمان إلا به ولأن فيه إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه وليس ذا في سواه من الأذكار ولأن للتهليل تأثيرا في تطهير الباطن عن الأوصاف الذميمة التي هي معبودات في الظاهر { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } فيفيد نفي عموم الإلهية بقوله " لا إله " ويثبت الواحد بقوله " إلا الله " ويعود الذكر من ظاهر لسانه إلى باطن قلبه فيتمكن ويتولى على جوارحه ويجد حلاوة هذا من ذاق . وأفضل الدعاء الحمد لله , لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله وأن تطلب منه الحاجة والحمد يشملها فإن الحامد لله إنما يحمده على نعمه والحمد على النعم طلب المزيد وفي الحديث القدسي إن الله يقول : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين , و حديث : الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده . فنبه به على وجه تسمية الحمد دعاء وهو كونه محصلا لمقصود الدعاء فأطلق عليه دعاء مجازا لذلك فإن حقيقة الدعاء طلب الإنعام والشكر كفيل بحصول الإنعام للوعد الصادق بقوله { لئن شكرتم لأزيدنكم } وقال الطيبي : لعله جعل أفضل الدعاء من حيث إنه سؤال لطيف يدق مسلكه . قال : وقد يكون قوله الحمد لله : تلميح وإشارة إلى { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } وأي دعاء أفضل وأجمع وأكمل منه . دل هذا الحديث بمنطوقه على أن كلا من الكلمتين أفضل نوعه ودل بمفهومه على أن لا إله إلا الله أفضل من الحمد لله فإن نوع الذكر أفضل من نوعه . < تنبيه> قال البدر الدماميني : لا يمتنع أن يفوق الذكر مع سهولته الأعمال الشاقة الصعبة من الجهاد ونحوه وإن ورد : أفضل العبادات أشقها لأن في الإخلاص في الذكر من المشقة سيما الحمد في حال الفقر ما يصير به أعظم الأعمال وأيضا فلا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حال فإن ثواب كلمة الشهادة مع سهولتها أكثر من العبادات الشاقة .
الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) متفق عليه . الشرح : لا يؤمن أحدكم إيمانا كاملا حتى يحب لأخيه في الإسلام من الخير ما يحب لنفسه , وأن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من السوء , ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم بغض نقيضه وذلك ليكون المؤمنون كنفس واحدة . ومقصود الحديث انتظام أحوال المعاش والمعاد والجري على قانون السداد { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وعماد ذلك وأساسه السلامة من الأدواء القلبية كالحاسد يكره أن يفوته أحد أو يساويه في شيء والإيمان يقتضي المشاركة في كل خير من غير أن ينقص على أحد من نصيب أحد شيء نعم من كمال الإيمان تمني مثل فضائله الأخروية الذي فات فيها غيره وآية { لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } نهي عن الحسد المذموم فإذا فاقه أحد في فضل دين الله اجتهد في لحاقه وحزن على تقصيره لا حسدا بل منافسة في الخير وغبطة . والخير كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدينية والدنيوية وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها , والمحبة إرادة ما تعتقده خيرا قال النووي : المحبة الميل إلى ما يوافق المحب وقد يكون بحواسه كحسن الصورة أو بعلته أو بعقله إما لذاته كالفضل والكمال أو لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر والمراد هنا الميل الاختياري دون القهري .
الحديث السابع عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الأعمال الحب في الله و البغض في الله ) رواه الإمام أحمد و أبو داود .
الشرح : أفضل الأعمال الحب في الله أي في ذات الله لا لشوب رياء ولا هوى , والبغض في الله . فمن أفضل الأعمال أن يحب الرجل الرجل للإيمان والعرفان لا لحظ نفساني كإحسان وأن يكرهه للكفر والعصيان لا لإيذائه له والحاصل أن لا يكون معاملته مع الخلق إلا لله ومن البغض في الله بغض النفس الأمارة بالسوء وأعداء الدين وبغضهما مخالفة أمرهما والمجاهدة مع النفس بحبسها في طاعة الله بما أمر ونهى ومع أعدائه تعالى بالمصابرة معهم والمرابطة لأجلهم , وهذا الحديث على وجازته من الجوامع ومن تدبره وقف على سلوك طريق الله وفناء السالك في الله . ثم إن قيل كيف يكون الحب في الله والبغض فيه أفضل من نحو الصلاة والصوم والجهاد ؟ قلنا من أحب في الله يحب أنبياءه وأولياءه ومن شرط محبته إياهم أن يقفوا أثرهم ويطيع أمرهم قال القائل :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه . . . هذا لعمري في القياس بديع
لــــو كان حبك صادقا لأطعته . . . إن المحب لمن يحب مطيع
وكذا من أبغض في الله أبغض أعداءه وبذل جهده في مجاهدتهم بالبنان واللسان . قال ابن رسلان : وفيه أنه يجب أن يكون للإنسان أعداء يبغضهم في الله كما له أصدقاء يحبهم في الله تعالى . الحديث الثامن عن أبي قِرْصافة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من أحب قوماً حشره الله في زمرتهم ) رواه الطبراني و الضياء المقدسي . الشرح : من أحب قوما حشره الله في زمرتهم , فمن أحب أولياء الرحمن فهو معهم في الجنان ومن أحب حزب الشيطان فهو معهم في النيران قالوا : وذا مشروط بما إذا عمل مثل عملهم ولهذا يمثل لمحب المال ماله شجاعا أقرع يقول أنا مالك أنا كنزك , ويصفح له صفائح من نار فيكوى بها , وعاشق الصدر إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة تجمع بينهما في النار ويعذب كل منها بصاحبه إذ { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }, فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى . فالمرء مع من أحب طبعا وعقلا وجزاءا ومحلا فكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بطبعه شاء أم أبى وكل امرئ يصبو إلى مناسبه رضي أم سخط فالنفوس العلوية تنجذب بذواتها وهممها وعملها إلى أعلى والنفوس الدنية تنجذب بذواتها إلى أسفل ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل فلينظر أين هو ؟ ومع من هو في هذا العالم ؟ فإن الروح إذا فارقت البدن تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه في الدنيا فهو أولى بها فمن أحب الله فهو معه في الدنيا والآخرة إن تكلم فبالله وإن نطق فمن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكت فمع الله فهو بالله ولله ومع الله واتفقوا على أن المحبة لا تصح إلا بتوحد المحبوب , وأن من ادعى محبته ثم لم يحفظ حدوده فليس بصادق وقيل المراد هنا من أحب قوما بإخلاص فهو في زمرتهم وإن لم يعمل عملهم لثبوت التقارب مع قلوبهم . الحديث التاسع عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أحسن الناس و أجود الناس و أشجع الناس ) رواه البخاري و مسلم. الشرح : كان صلى الله عليه و سلم أحسن الناس خلقا وخلقا وصورة وسيرة ونسبا وحسبا ومعاشرة ومصاحبة , وكان أجود الناس بكل ما ينفع , لأن من كان أكملهم شرفا وأيقظهم قلبا وألطفهم طبعا وأعدلهم مزاجا جدير بأن يكون أسمحهم صلة وأنداهم يدا ولأنه مستغن عن الغانيات بالباقيات الصالحات ولأنه تخلق بصفات الله تعالى التي منها الجود , و كان أشجع الناس أي أقواهم قلبا وأجودهم في حال البأس فكان الشجاع منهم الذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب وما ولى قط منهزما ولا تحدث أحد عنه بفرار , وقد ثبتت أشجعيته بالتواتر النقلي قال السيوطي: بل يؤخذ ذلك من النص القرآني لقوله { يا أيها النبي جاهد الكفار } فكلفه وهو فرد جهاد الكل و { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولا ضير في كون المراد هو ومن معه إذ غايته أنه قوبل بالجمع وذلك مفيد للمقصود وقد جمع صفات القوى الثلاث العقلية والغضبية والشهوية والحسن تابع لاعتدال المزاج المستتبع لصفات النفس الذي به جودة القريحة الدالة على العقل واكتساب الفضائل وتجنب الرذائل والجود كمال القوة الشهوية و الغضبية كمالها الشجاعة وهذه أمهات الأخلاق الفاضلة فلذلك اقتصر عليها قاله الطيبي . و بقيت الحديث في البخاري ولقد فزع أهل المدينة أي ليلا فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس أي استعاره من أبي طلحة وقال : وجدناه بحرا هكذا ساقه في باب مدح الشجاعة في الحرب وفي مسلم في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم عقب ما ذكر وقد قرع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا قال : وجدناه بحرا أو إنه لبحر انتهى . الحديث العاشر عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة . الشرح : إن الله تجاوز لأجلي النبي صلى الله عليه و سلم عن أمته الخطأ أي عن حكمه أو عن إثمه أو عنهما . والمراد بالخطأ ضد العمد وهو أن يقصد شيئا فيخالف غير ما قصد لا ضد الصواب خلافا لزاعمه لأن تعمد الإثم يسمى خطئا بالمعنى الثاني ولا تمكن إرادته هنا ولفظه يمد ويقصر. وعن النسيان وما استكرهوا عليه أي حملوا على فعله قهرا وشرطه قدرة المكره على تحقيق ما هدد به مما يؤثر العاقل الإقدام على المكره عليه والمراد رفع الإثم . وقد جاء في التفسير في قوله عز وجل : { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فجاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل في أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وأن له الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا قولوا : سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم ومكثوا حولا فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله تعالى : قد فعلت إلى آخرها فنزل التخفيف ونسخت الآية الأولى . الحديث الحادي عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها ) رواه الترمذي و الحاكم و صححه . الشرح : أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها , لأنها أعظم الوصل بين العبد وربه وهي عماد الدين وعصام النبيين مشتملة على ما لم يشتمل عليه غيرها من الكمالات ولهذا قال بعض أهل الكمال الصلاة طهرة للقلب واستفتاح لأبواب الغيوب تتسع فيها ميادين الأسرار وتشرق فيها شوارق الأنوار ثم ما أحسن تركيبها وما أبدع ترتيبها فكما أن الجنة قصورها لبنة من ذهب وأخرى من فضة وملاطها المسك فالصلاة بناؤها لبنة من قراءة ولبنة من ركوع ولبنة من سجود وملاطها التسبيح والتحميد . <تنبيه> قال ابن الزملكاني : أطلق جمع أن الفضل في الأعمال الصالحة باعتبار كثرة الثواب وليس على إطلاقه بل إن كانت ذات هذا الوصف أو هذا العمل أشرف وأعلا فهو أفضل وقد يخص الله بعض الأعمال من الوعد بما لا يخص به الآخر ترغيبا فيه إما لنفرة النفس عنه أو لمشقته غالبا فرغب فيه بمزيد الثواب أو لأن غيره مما يكتفى فيه بداعي النفس والثواب عليه فضل فالإنصاف أن المفاضلة تارة تكون بكثرة الثواب وتارة بحسب الوصفين بالنظر إليهما وتارة بحسب متعلقاتهما وتارة بحسب ثمراتهما وتارة بأمر عرضي لهما ويجمع ذلك أنه قد يكون لأمر ذاتي وقد يكون لأمر عرضي فإذا حاولنا الكلام في التفضيل فلا بد من استحضار هذه المقدمة فتدبرها فلا بد من ملاحظتها فيما مر وفيما يأتي انتهى وتحصل المبادرة باشتغاله بأسبابها كطهارة وغيرها أول الوقت ثم يصليها ولا تشترط السرعة خلاف العادة ولا يضر التأخير لقليل أكل وكلامه شامل للعشاء وهو الأصح عند جمهور الشافعية وذهب كثير منهم إلى ندب تأخيرها إلى ثلث الليل لحديث آخر ومحل ندب التعجيل ما لم يعارضه معارض مما هو مقرر في الفروع . الحديث الثاني عشر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : إذا سمعتم الأذان فقولوا مثل ما يقول المؤذن , ندباً عند الشافعية ووجوباً عند الحنفية ووافقهم ابن وهب المالكي قال في فتح القدير ظاهر الأمر الوجوب إذ لا تظهر قرينة تصرف عنه بل ربما يظهر استنكارا تركه لأنه يشبه عدم الالتفات إليه والتشاغل عنه وقال الشافعية الصارف عن الوجوب الإجماع على عدم وجوب الأصل وهو الأذان والإقامة وأما زعم أن الصارف قوله في خبر الصحيحين ثم صلوا علي ثم سلوا لي الوسيلة وهما مندوبان فالإجابة مندوبة فرد بأن دلالة الاقتران ضعيفة عند الجمهور . فإن لم يجبه حتى فرغ سن له التدارك إن قصر الفصل , والمراد بالمماثلة المشابهة في مجرد القول لا صفته كرفع الصوت والمراد بما يقول المؤذن ذكر الله والشهادتين إلا الحيعلتين لما في خبر مسلم أن السامع يقول في كل منهما لاحول ولا قوة إلا بالله وإلا التثويب لما في خبر أنه يقول فيه صدقت وبررت وحكمة استثناء الحيلعة أنها دعاء لا ذكر فلو قالها السامع لكان الناس كلهم دعاة فلا يبقى مجيب فحسن من السامع الحوقلة لأن المؤذن لما دعا الناس إلى الحضور أجابوا بأنهم لا يقدرون عليه إلا بعون الله وتأييده : وحكمته استثناء التثويب أنه في معنى الدعاء للصلاة لا ذكر فحسن بأن يجاب بصدقت وبررت . وزعم ابن وضاح أن المؤذن مدرج ورد باتفاق الصحيحين والموطأ عليها قال ابن دقيق العيد : وفيه أن لفظ مثل لا يقتضي المساواة من كل وجه انتهى ولا يخالفه قوله مرة أخرى لفظ مثل يقتضي المساواة من كل وجه إلا من الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين بحيث يخرجهما عن الوحدة فإن مفهوم الكلام الأول يصدق بالوجه الذي اختلفت فيه الحقيقتان ذكره العراقي . الحديث الثالث عشر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : صلاة في الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة أي مرتبة والمعنى أن صلاة الواحد في جماعة يزيد ثوابها على ثواب صلاته وحده سبعا وعشرين ضعفا وقيل : المعنى إن صلاة الجماعة بمثابة سبع وعشرين صلاة , قال الرافعي : وعبر بدرجة دون نحو جزء أو نصيب لإرادته أن الثواب من جهة العلة والارتفاع وأن تلك فوق هذه بكذا كذا درجة نعم ورد التعبير بالجزء في رواية ثم إن سر التقييد بالعدد لا يوقف عليه إلا بنور النبوة والاحتمالات في هذا المقام كثيرة منها أن الفروض خمسة فأريد التكثر عليها بتضعيفها بعدد نفسها فيها ولا ينافيه اختلاف العدد في ذكر الروايات لأن القليل لا ينفي الكثير ومفهوم العدد غير معتبر حيث لا قرينة أو أنه أعلم بالقليل ثم بالكثير ومثل ذلك لا يتوقف على معرفة التاريخ لأن الفضائل لا تنسخ أو هو مختلف باختلاف الصلوات أو المصلين هيئة وخشوعا وكثرة جماعة وشرف بقعة وغيرها أو أن الأعلى للصلاة الجهرية والأقل للسرية لنقصها عنها باعتبار استماع قراءة الإمام والتأمين لتأمينه أو أن الأكثر لمن أدرك الصلاة كلها في جماعة والأقل لمن أدرك بعضها وكيفما كان فيه حث على الصلاة في الجماعة المشروعة وهي فرض كفاية في المكتوبة على الأصح . قال القاضي : والحديث دليل على أن الجماعة غير شرط للصلاة وإلا لم تكن صلاة الفذ ذات درجة حتى تفضل عليها صلاة الجماعة بدرجات والتمسك به على عدم وجوبها ضعيف إذ لا يلزم من عدم اشتراطها عدم وجوبها ولا من جعلها سببا لإحراز الفضل الوجوب فإن غير الواجب أيضا يوجب الفضل . الحديث الرابع عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( إذا رأيتموه فصوموا و إذا رأيتموه فافطروا فإن غُم عليكم فاقدروا له ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : إذا أبصر هلال رمضان عدل منكم فصوموا وجوبا , وإذا رأيتموه فأفطروا كذلك فإن غم عليكم أي حال بينكم وبينه غيم فاقدروا له . اختلف العلماء في معنى فاقدروا له فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان وقال بن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وبن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة يقال قدرت الشيء أقدره وأقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابى ومنه قول الله تعالى فقدرنا فنعم القادرون . قال المازرى حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم . وقد فرض الصيام على هذه الأمة ابتداء أياما معدودة لأن الله سبحانه وتعالى لما جمع لها ما في الكتب والصحف من الفضائل كانت مبادئ أحكامها على حكم الأحكام المتقدمة فكما وجهوا وجهة أهل الكتاب ابتداء ثم ختم لهم بالوجهة إلى الكعبة انتهاء صوموا صوم أهل الكتاب ابتداء ثم رقوا إلى صوم دائرة الشهر انتهاء ولما كان من قبلنا أهل حساب لما فيه من حصول أمر الدنيا فكانت أعوامهم شمسية كان صومهم عدد أيام لا وحدة شهر وكان فيه على هذه الأمة من الكلفة ما كان في صوم أهل الكتاب من حيث لم يكن فيه أكل ولا نكاح بعد نوم لينال رأس هذه الأمة وأوائلها حظا من أوائل الأمم ثم رقيت إلى ما يخصها . الحديث الخامس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما و الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الصغائر , واستشكل كون العمرة كفارة لها مع أن تجنب الكبائر يكفرها وأجيب بأن تكفير العمرة مقيد بزمنها وتكفير التجنب عام لجميع عمر العبد . قال في المطامح : نبه بهذا الحديث على فضل العمرة الموصولة بعمرة اه . وفيه رد على مالك حيث كره أن يعتمر في السنة غير مرة . والحج المبرور الذي لا يخالطه إثم أو المقبول أو ما لا رياء فيه ولا فسوق ليس له جزاء إلا الجنة أي لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة . قال في المطامح : وقضية جعله العمرة مكفرة والحج جزاؤه الجنة أنه أكمل . ومن علامة القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي. واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة فتصح في كل وقت منها إلا في حق من هو متلبس بالحج فلا يصح اعتماره حتى يفرغ من الحج ولا تكره عند الشافعية لغير الحاج في يوم عرفة والأضحى والتشريق وسائر السنة وبهذا قال مالك وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة تكره في خمسة أيام يوم عرفة والنحر وأيام التشريق , واختلف العلماء في وجوب العمرة فمذهب الشافعي والجمهور أنها واجبة . الحديث السادس عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : عمرة في رمضان تعدل حجة أي تقابلها وتماثلها في الثواب لأن الثواب يفضل بفضيلة الوقت ذكره المظهر . قال الطيبي : وهذا من باب المبالغة وإلحاق الناقص بالكامل ترغيبا وبعثا عليه وإلا كيف يعدل ثواب العمرة ثواب الحج اه . فعلم أنها لا تقوم مقامها في إسقاط الفرض للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن فرض الحج وفيه أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا كلها وأن ثواب العمل يزداد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وخلوص النية فإن أفضل أوقات العمرة رمضان قال الراغب : والعمرة الزيادة التي فيها عمارة الوقت وجعل في الشرع للقصد المخصوص . وفي الحديث أنه يسن إكثار العمرة في رمضان وعليه الشافعية . الحديث السابع عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام , أي فإنها فيه أفضل منها في مسجدي لأن التقدير فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدليل خبر أحمد وغيره صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي قال الحرالي : سمي حراما لحرمته حيث لم يوطأ قط إلا بإذن الله ولم يدخله أحد قط إلا دخول ذلة فكان حراما على من يدخله دخول متكبر أو متبختر قالوا : وهذا التضعيف فيما يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الأجزاء على الفوائت فلو كان عليه صلاتان فصلى بمسجد مكة أو المدينة واحدة لم يجز عنهما قال النووي : وهذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده دون ما زيد بعده لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وقد أكده بقوله هذا بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة. واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم فقال عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين المدينة أفضل وقال أهل مكة والكوفة والشافعي وبن وهب وبن حبيب المالكيان مكة أفضل . قال النووي أعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعا وبه قال مطرف من أصحاب مالك وقال الطحاوي يختص بالفرض وهذا مخالف إطلاق الأحاديث الصحيحة . الحديث الثامن عشر عن عبدالله بن زيد المازني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنة ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : ما بين بيتي يعني قبري لأن قبره في بيته ومنبري روضة كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمة أو إيصال التعبد فيها إليها أو منقول منها كالحجر الأسود أو ينقل إليها كالجذع الذي حن إليه فهو تشبيه بليغ أو مجازا أو حقيقة وأصل الروضة أرض ذات مياه وأشجار وأزهار وقيل بستان في غاية النضارة وما بين منبره وبيته الذي هو قبره الآن ثلاثة وخمسون ذراعا وتمسك به من فضل المدينة على مكة لكون بلك البقعة من الجنة وفي الخبر لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها وتعقب بأن الفضل لتلك البقعة خاصة وادعاء أن ما يقربها أفضل يلزمه أن الجحفة أفضل من مكة والملازم باطل وللحديث تتمة لم يذكرها المصنف وهي قوله ومنبري على حوضي كذا هو ثابت في رواية مسلم وغيره وقال المؤلف : الأصح أن المراد منبره الذي كان في الدنيا بعينه وقيل له هناك منبر وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده لعمل صالح يورد صاحبه الحوض ويقتضي شربه منه وقال الطيبي : لما شبه المسافة التي بين البيت والمنبر بروضة الجنة لكونها محل الطاعة والذكر ومواضع السجود والفكر أتى بقوله ومنبري على حوضي إيذانا بأن استمداده من البحر الزاخر النبوي ومكانه المنبر الموضوع على الكوثر يفيض منه العلم الإلهي فجعل فيضان العلم اللدني من المنبر إلى الروضة . الحديث التاسع عشر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) رواه البخاري ومسلم . الشرح : الظلم ظلمات يوم القيامة فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب التقوى احتوت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني عنه ظلمه شيئا . وفي خبر لابن مسعود " يؤتى بالظلمة فيوضعون في تابوت من نار ثم يقذفون فيها . و الظلم من الذنوب الكبيرة التي تجعل فاعلها في كربات شديدة و عقاب أليم يوم القيامة . الحديث العشرون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم ( الراشي و المرتشي ) رواه أبو داود و الترمذي . الشرح : الراشي والمرتشي أي آخذ الرشوة ومعطيها في النار . قال الخطابي : إنما تلحقهم العقوبة إذا استويا في القصد فرشى المعطي لينال باطلا فلو أعطى ليتوصل به لحق أو دفع باطل فلا حرج وقال ابن القيم : الفرق بين الرشوة والهدية أن الراشي يقصد بها التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل وهو الملعون في الخبر فإن رشى لدفع ظلم اختص المرتشي وحده باللعنة والمهدي يقصد استجلاب المودة ومن كلامهم البراطيل تنصر الأباطيل . وقال القاضي الشوكاني في النيل والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص والحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث ومن زعم الجواز في صورة من لصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه فإن الأصل في مال المسلم التحريم ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقد انضم إلى هذا الأصل كون الدافع إنما دفعه لأحد أمرين إما لينال به حكم الله إن كان محقا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله عز وجل على الحاكم الصدع به فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع إلى البغي فالتوصل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به وهو أيضا ذنب بين العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله وبين الأمرين بون بعيد . الحديث الحادي و العشرين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( كل مسكر خمر و كل مسكر حرام , و من شرب الخمر في الدنيا فمات و هو يدمنها لم يشربها في الآخرة ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : كل مسكر خمر أي مخامر للعقل ومغطيه يعني أن الخمر اسم لكل ما يوجد فيه الإسكار , أو أنه كالخمر في الحرمة ووجوب الحد وإن لم يكن خمرا . و كل مسكر حرام , سواء اتخذ من العنب أم من غيره. قال القرطبي : وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه مع موافقته لظهور النصوص الصحيحة قال الزين العراقي : كذا في رواية الصحيح وفي بعض طرقه في الصحيح وكل خمر حرام والكل صحيح اه . والرواية الثانية يحصل منها مقدمتان وينتج ذلك كل مسكر حرام اه . وقال الطيبي : فيه دليل على جواز القياس باطراد العلة . فالخمر في الكل حقيقة شرعية أو مجاز في الغير فيلزم النجاسة والتحريم . ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها أي مصر عليها لم يشربها في الآخرة يعني لم يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة فإذا لم يشربها لم يدخلها أو أنه يدخلها ويحرم شربها بأن تنزع منه شهوتها ذكره ابن عبد البر واستشكل بأن من لا يشتهي شيئا لا يخطر بباله لا يحصل له عقوبة ذلك وشهوات الجنة كثيرة يستغني بعضها عن بعض وأجاب الزين العراقي بأن كل شهوة يجد لها لذة لا يجدها لغيرها فيكون ذلك نقصا في نعيمه بل ورد في الحديث أن الطعام الواحد في الجنة يجد لكل لقمة منه لذة لا يجدها لما قبلها فهذا في النوع الواحد فكيف بنعيم برأسه . الحديث الثاني و العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه ) رواه الحاكم . الشرح : من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان أي كماله , كما يخلع الإنسان القميص من رأسه , أبرز المعقول بصورة المحسوس تحقيقا لوجه التشبيه ولم يذكر التوبة لظهورها أو للتشديد والتهديد والتهويل وذلك لأن الخمر أم الفواحش والزنا يترتب عليه المقت من الله وقد علق سبحانه فلاح العبد على حفظ فرجه منه فلا سبيل إلى الفلاح بدونه فقال { قد أفلح المؤمنون } الآيات وهذا يتضمن أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين وأنه من الملومين العادين ففاته الفلاح واستحق اسم العدوان ووقع في اللوم فمقاساة ألم الشهوة أيسر من بعض ذلك . و المقصود بنزع الإيمان إن استحل وإلا فالمراد نوره أو أنه صار منافقا نفاق معصية لا نفاق كفر أو أنه شابه الكافر في عمله وموقع التشبيه أنه مثله في حل قتاله أو قتله وليس بمستحضر حال تلبسه به حلال من آمن به فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها عليه الشهوة والمعصية تذهله عن رعاية الإيمان وهو تصديق القلب فكأنه نسي من صدق به أو أنه يسلب الإيمان حال تلبسه به فإذا فارقه عاد إليه أو المعنى خرج منه الحياء لأن الحياء من الإيمان كما مر في عدة أخبار صحاح وحسان أو هو زجر وتنفير . الحديث الثالث و العشرون عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر ) رواه الحاكم و قال صحيح الإسناد . الشرح : اجتنبوا الخمر أي كل مسكر ما من شأنه الاسكار فشمل العصر والاعتصار والبيع والشراء والحمل والمس والنظر وغيرها , فإنها مفتاح كل شر , كان مغلقا من زوال العقل والوقوع في المنهيات واقتحام المستقبحات ونزول الأسقام وحلول الآلام , وفي خبر الديلمي عن ابن عمر رفعه تزوج شيطان إلى شيطانة فخطب إبليس اللعين بينهما فقال : أوصيكم بالخمر والغناء وكل مسكر فإني لم أجمع جميع الشر إلا فيهما . فالخمر أم الفواحش التي تجمع كل خبيث و هي من أكبر الكبائر , من شربها وسكر وقع على أمه وخالته وعمته يظن أنها زوجته وهو لا يشعر ومن ثم جعلها الله مفتاح كل إثم كما جعل الغناء مفتاح الزنا وإطلاق النظر في الصور مفتاح العشق والكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان والمعاصي مفتاح الكفر والكذب مفتاح النفاق والحرص مفتاح البخل وهذه أمور لا يصدق بها إلا من له بصيرة صحيحة ولب يعرف به ما في نفسه وما في الوجود من خير وشر . الحديث الرابع و العشرون عن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم ( آكل الربا و موكله و كاتبه و شاهده و قال هم سواء ) رواه مسلم. الشرح : بعيد عن الرحمة آكل الربا أي متناوله وموكله أي معطيه ومطعمه وكاتبه وشاهده , و هم سواء في الإثم , واستحقاق الشاهدان اللعن من حيث رضاهما به وإعانتهما عليه , والحال أنهم يعلمون أنه ربا لأن منهم المباشر للمعصية والمتسبب وكلاهما آثم أحدهما بالمباشرة والآخر بالسببية قال الذهبي : وليس إثم من استدان محتاجا لربا كإثم المرابي الغني بل دونه واشتركا في الوعيد . قال الحرالي : عبر بالأكل عن المتناول لأنه أكبر المقاصد وأضرها ويجري من الإنسان مجرى الدم . قال النووي هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما , وفيه تحريم الإعانة على الباطل . فإن قلت حديث : " اللهم ما لعنت من لعنة فاجعلها رحمة " أو نحوه وفي لفظ : " ما لعنت فعلى من لعنت " يدل على أنه لا يدل اللعن منه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على التحريم وأنه لم يرد به حقيقة الدعاء على من أوقع عليه اللعن ؟ قلت : ذلك فيما إذا كان من أوقع عليه اللعن غير فاعل لمحرم معلوم أو كان اللعن في حال غضب منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم .
الحديث الخامس و العشرون عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( المرء مع من أحب ) رواه البخاري و مسلم . الشرح : المرء مع من أحب , طبعا وعقلا وجزاءا ومحلا فكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بطبعه شاء أم أبى وكل امرئ يصبو إلى مناسبه رضي أم سخط فالنفوس العلوية تنجذب بذواتها وهممها وعملها إلى أعلى والنفوس الدنية تنجذب بذواتها إلى أسفل ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل فلينظر أين هو ؟ ومع من هو في هذا العالم ؟ فإن الروح إذا فارقت البدن تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه في الدنيا فهو أولى بها فمن أحب الله فهو معه في الدنيا والآخرة إن تكلم فبالله وإن نطق فمن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكت فمع الله فهو بالله ولله ومع الله واتفقوا على أن المحبة لا تصح إلا بتوحد المحبوب , وأن من ادعى محبته ثم لم يحفظ حدوده فليس بصادق وقيل المراد هنا من أحب قوما بإخلاص فهو في زمرتهم وإن لم يعمل عملهم لثبوت التقارب مع قلوبهم قال أنس : ما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث . وفي ضمنه حث على حب الأخيار رجاء اللحاق بهم في دار القرار والخلاص من النار والقرب من الجبار والترغيب في الحب في الله والترهيب من التباغض بين المسلمين لأن من لازمها فوات هذه المعية وفيه رمز إلى أن التحابب بين الكفار ينتج لهم المعية في النار وبئس القرار { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } . الحديث السادس و العشرون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( المستشار مؤتمن ) رواه الإمام أحمد و غيره . الشرح : المستشار مؤتمن أي أمين على ما استشير فيه فمن أفضى إلى أخيه بسره وأمنه على نفسه فقد جعله بمحلها فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صوابا فإنه كالإمامة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجعل إلا عند موثوق به وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين وهو النصح لله ورسوله وعامة المسلمين وبه يحصل التحابب والإئتلاف وبضده يكون التباغض والاختلاف . < تنبيه > قال بعض الكاملين : يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير فإنه يحتاج أولا إلى علم الشريعة وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس وعلم الزمان وعلم المكان وعلم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان وهكذا فينظر في الترجيح فيفعل بحسب الأرجح عنده مثاله أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال فيشير بأهمهما وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي وهذا يسمى علم السياسة فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها فلذلك قالوا يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل وفكر صحيح ورؤية حسنة واعتدال مزاج وتؤدة وتأن فإن لم تجمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته فلا يشير ولا ينصح قالوا : وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة . الحديث السابع و العشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أدِّ الأمانة إلى من أتمنك و لا تخن من خانك ) رواه أبو داود و الترمذي . الشرح : أد وجوبا الأمانة إلى من ائتمنك عليها , و الأمانة هي كل حق لزمك أداؤه وحفظه وقصر جمع لها على حق الحق وآخرين على حق الخلق قصور قال القرطبي : والأمانة تشمل أعدادا كثيرة لكن أمهاتها الوديعة واللقطة والرهن والعارية . قال القاضي : وحفظ الأمانة أثر كمال الإيمان فإذا نقص الإيمان نقصت الأمانة في الناس وإذا زاد زادت . والخيانة التفريط في الأمانة . قال الحراني : والائتمان طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفظه حتى يعاد إلى المؤتمن ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضايق الأمانة وربما تأولت جوازها مع من لم يلتزمها أعقبه بقوله ولا تخن من خانك أي لا تعامله بمعاملته ولا تقابل خيانته بخيانتك فتكون مثله وليس منها ما يأخذه من مال من جحده حقه إذ لا تعدي فيه أو المراد إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته وإن كان حسنا بل قابله بالأحسن الذي هو العفو وادفع بالتي هي أحسن وهذا كما قاله الطيبي أحسن قال ابن العربي : وهذه مسألة متكررة على ألسنة الفقهاء ولهم فيها أقوال الأول لا تخن من خانك مطلقا الثاني خن من خانك قاله الشافعي الثالث إن كان مما ائتمنك عليه من خانك فلا تخنه وإن كان ليس في يدك فخذ حقك منه قاله مالك الرابع إن كان من جنس حقك فخذه وإلا فلا قاله أبو حنيفة . قال : والصحيح منها جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه أو غير جنسه إذا عدلت لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اضطررت . الحديث الثامن و العشرون عن أبي أمامه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) رواه الإمام أحمد و ابن ماجة . الشرح : أفضل أنواع الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر أي ظالم لأن مجاهد العدو متردد بين رجاء وخوف وصاحب السلطان إذا أمره بمعروف تعرض للتلف فهو أفضل من جهة غلبة خوفه ولأن ظلم السلطان يسري إلى جم غفير فإذا كفه فقد أوصل النفع إلى خلق كثير بخلاف قتل كافر . وفي رواية للترمذي : عدل : بدل حق وأراد بالكلمة الكلام وما يقوم مقامه كالخط , والمراد بالسلطان : من له سلاطة وقهر . ( تتمة ) أصل الجهاد بالكسر لغة المشقة وشرعا بذل الجهد في قتال الكفار ويطلق على مجاهدة النفس وعلى تعلم أمور الدين ثم العمل بها ثم على تعليمها وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات وأما مجاهدة الكفار فباليد والمال والقلب وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب <فائدة> قال الدميري : دخل النور البكري على محمد بن قلاوون فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل الجهاد وذكر الحديث . ثم قال له : وأنت ظالم فأمر بقطع لسانه فجزع واستغاث فشفع به بعض الأمراء . فقال السلطان : ما أردت إلا امتحان إخلاصه ثم نفاه . الحديث التاسع و العشرون عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول اله صلى الله عليه و سلم : ( لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله و ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله ) رواه الطبراني . الشرح : أصل الحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال داود : أقبل مروان بن الحكم فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر أي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتدري ما تصنع ؟ فأقبل ع