جميع الحقوق
محفوظة
للمؤلف
1430هـ ـ 2009 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بدين الإسلام , و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الذي بين الحلال و الحرام و أوضح لأمته سائر الإحكام , و على آله و صحبه الذين أيد الله بهم الشرع المتين و على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فهذه دروس فقهية من آيات القرآن تتعلق ببيان أحكام الصلاة ما يلزم معها اخترتها و جمعت شرحها على مذهب الشافعية , و اقتصرت في الشرح على ما يتعلق بالآيات و ما يوضح دلالاتها , و ضمنت الشرح جملة من أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم , إما مؤيدة لدلالة الآية أو مفسرة لها , و ذلك جمعاً بين الدليل من الكتاب و السنة , و إن كان للمسألة علة ذكرتها .
أسأل الله أن يعم النفع بها و يجعلها خالصة لوجه الكريم , و صلى وسلم الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين . و الحمد لله رب العالمين و سلام على عباده المرسلين .
بقلم
راجي عفو ربه الأجل
سليمان بن يحيى بن عبدالله الأهدل
الدرس الأول
المياه
قال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا } آية 48 / الفرقان .
معنى الآية :
وهو الذي سخر الرياح فتسوق السحب وتبشر الناس بالمطر الذي هو رحمة منه لهم ، ولقد أنزلنا من السماء ماء طاهراً مُطهراً مزيلا للأنجاس والأوساخ .
الشرح الفقهي :
هذه الآية دليل على أن الماء النازل من السماء طهور أي مطهراً . و الماء الطهور يعبر عنه بالمطلق , و هو ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد , و يدخل في هذا التعريف ما نزل من السماء و ما نبع من الأرض . فالماء الطهور شرط لصحة الطهارة فلا يصح رفع حدث و لا إزالة نجس إلا به . و يخرج بالماء الطهور ثلاثة :
الأول : الماء القليل المستعمل في فرض الطهارة عن حدث كالغسلة الأولى الثاني : الماء المتغير طعمه أو لونه أو ريحه بشيء خالطه من الطاهرات التي لا يمكن فصلها , و هو مستغني عنها و كان هذا التغير تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه , سواء كان المتغير قليلاً أم كثيراً لأنه لا يسمى ماء . الثالث : الماء النجس الذي حلت فيه أو لاقته نجاسة و هو دون القلتين سواء تغير أم لا .
الدرس الثاني
فروض الوضوء
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ...} . آية 6 / المائدة .
معنى الآية :
فيَأيها المؤمنون ، إذا أردتم القيام إلى الصلاة ولم تكونوا متوضئين ، فتوضؤا بغسل وجوهكم وأيديكم مع المرافق ، وامسحوا رءوسكم - كلها أو بعضها - واغسلوا أرجلكم مع الكعبين .
الشرح الفقهي : دلت الآية على فروض الوضوء . و الوضوء شرعاً : هو اسم لغسل أعضاء مخصوصة , و هي الأربعة المذكورة في الآية , و قد اشتملت الآية على فروض الوضوء الستة التالية :
ـ الأول النية : فتقرير الكلام في الآية إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجهكم لها , كما تقولا العرب إذا رأيت الأمير فقم , أي له . و قد ثبت في الصحيحين حديث ( إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى ...) , أي أن الأعمال لا تكون شرعية يتعلق بها ثواب وعقاب إلا بالنية والوضوء عمل من الأعمال المشروعة فتجب فيه النية فإذا لم ينو الوضوء لم يتحصل له . و لأن الوضوء عبادة محضة طريقه الأفعال فلم يصح من غير نية كالصلاة .
ـ الثاني غسل الوجه : فالمراد بالغسل الانغسال سواء كان بفعل المتوضئ أم بغيره و كذا الحكم في سائر الأعضاء . و الوجه : مشتق من المواجهة , و حده طولاً ما بين منابت الشعر إلى منتهى اللحيين , و عرضاً ما بين الأذنين .
ـ الثالث غسل اليدين مع المرفقين : لأن « إلى » بمعنى « مع » و وجه دلالة الآية على ذلك أن تجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب مجازاً إلى المرفق مع جعل « إلى » للمعية كما في قوله تعالى { من لأنصاري إلى الله } و قوله تعالى { و يزدكم قوة إلى قوتكم }. و لا بدّ من غسل جزء من العضد ليتحقق غسل اليد . و المرافق جمع مرفق و هو العظم الناتئ في آخر الذراع . سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء و نحوه , أي يستعان به . ـ الرابع مسح الرأس : مع جواز الاكتفاء بمسح البعض على أن الباء في قوله تعالى { برؤوسكم }تبعيضية لأنها إذا دخلت على متعدد كما هنا تكون للتبعيض أو غيره كما في قوله تعالى : { و ليطوفوا بالبيت العتيق } تكون للإلصاق . و قد تبين بالسنة أن البعض يجزئ و ذلك البعض هو أقل ما يطلق عليه المسح و لو شعرة واحدة في حدّ الرأس .
ـ الخامس غسل الرجلين مع الكعبين: و دلّ على دخول الكعبين في الغسل ما دلّ على دخول المرفقين فيه , و قد مرّ . و الكعبان : هما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق و القدم .
ـ السادس الترتيب : دلت الآية على وجوبه لا ندبه , لأن الآية بيان للوضوء الواجب. كما أن الأحاديث الصحيحة في صفة وضوئه صلى الله عليه و سلم تدل على أنه قد التزم الترتيب الوارد في آية الوضوء . ودليله من العقل أن الله تعالى فرض ممسوحا بين مغسولات ولا يفرق عند العرب بين المتجانسات إلا لعلة والعلة هنا لزوم الترتيب ثم إن الوضوء عبادة مشتملة على أركان مختلفة كالصلاة لذا وجب الترتيب فيه .
الدرس الثالث
نواقض الوضوء
قال الله تعالى : { ... وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا ...} آية 6 المائدة .
معنى الآية :
وإن كنتم جنباً عند القيام إلى الصلاة بسب ملامسة أزواجكم ، فاغسلوا جميع أبدانكم بالماء ، وأن كنتم مرضى مرضاً يمنع من استعمال الماء ، أو كنتم مسافرين يتعسر عليكم وجود الماء ، أو عند رجوعكم من مكان قضاء الحاجة ، أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء ، فعليكم بالتيمم بالتراب الطهور .
الشرح الفقهي :
في هذه الآية دليل على أن الحدث ينقض الوضوء و على أن اللمس كذلك . و المراد بالحدث هنا الأصغر الذي يحصل بأربعة أمور ذكر في آية منها اثنان و هما :
ـ الأول خروج شيء من السبيلين : و المراد بالغائط في الآية الخارج , و أصله في اللغة المكان المطمئن من الأرض تقضى فيه الحاجة سمي باسمه الخارج من الدبر للمجاورة . و يقاس به كل خارج من السبيلين من بول أو دم أو ريح فإنه ناقض للوضوء إلا مني الشخص نفسه الخارج منه أولاً كأن أمنى بمجرد نظر أو احتلام ممكناً مقعده , فلا ينقض الوضوء لأنه أوجب أعظم الأمرين و هو الغسل . ـ الثاني لمس المرأة الأجنبية : فالمراد بقوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } أي لمستم كما قرئ به , فعطف اللمس على المجيء من الغائط و رتب عليهما الأمر بالتيمم عند فقد الماء فدل على أنه حدث كالمجيء من الغائط , لا جامعتم لأنه خلاف الظاهر إذ اللمس لا يختص بالجماع , قال تعالى : { و لو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم } أي جسوه . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لماعز حين أقر بالزنا يعرّض له عن الإقرار , « لعلك قبلت أو لمست » , و في الحديث الصحيح « و اليد زناها اللمس » . و لا فرق في ذلك بين أن يكون اللمس بشهوة أو إكراه أو نسيان أو تكون المرأة عجوزاً شوهاء . و اللمس يطلق في الشرع على الجس باليد , و المعنى فيه أنه مظنة ثوران الشهوة و مثله في ذلك باقي صور الالتقاء فألحق به , بخلاف النقض بمس الفرج فإنه يختص ببطن الكف لأن المس إنما يثير الشهوة ببطن الكف و اللمس يثيرها به و بغيره . و يشترط في نقض اللمس لمس بشرتي الرجل و المرأة الكبيرين الأجنبيين من غير حائل , فلا ينقض صغير أو صغيرة لا يشتهى و لا ينقض شعر و سن و ظفر و لا ينقض محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة لانتفاء مظنة الشهوة .
الدرس الرابع
الجنابة و الغسل منها
قال الله تعالى : { ... وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ ... } آية 6 المائدة .
و قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ } آية 43 النساء .
معنى الآيتان :
وإن كنتم جنباً عند القيام إلى الصلاة بسب ملامسة أزواجكم ، فاغسلوا جميع أبدانكم بالماء .
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة في المساجد حال سكركم حتى تفقهوا ما تقولون ، ولا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة إلا إذا كنتم عابري المساجد عبوراً دون استقرار فيها ، حتى تطهروا بالاغتسال .
الشرح الفقهي : دلت الآية الأولى على وجوب الطهارة من الجنابة , و هي حاصلة بأمرين :
ـ الأول بالجماع : الحاصل بدخول الحشفة في الفرج .
ـ الثاني بخروج المنيّ : و يعرف بتدفق أو لذة بخروجه مع فتور الذكر و انكسار الشهوة عقبه و يعرف إذا كان رطباً بريح عجين حنطة أو نحوها أو ريح طلع النخيل , و إذا كان جافاً بريح بياض بيض دجاج أو نحوه .
و الآية الثانية دلت على تحريم المكث بالمسجد للجنب أو التردد فيه لغير عذر , قال ابن عباس و غيره في قوله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي لا تقربوا مواضع الصلاة لأنه ليس فيها عبور سبيل . و خرج بالمكث و التردد : العبور لقوله تعالى : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } , و لغير عذر : ما إذا حصل له عذر كأن احتلم في المسجد و تعذر عليه الخروج لإغلاق باب أو خوف على نفسه أو عضوه أو منفعة ذلك أو على ماله فلا يحرم عليه حينئذ المكث , و لكن يجب عليه التيمم إن وجد غير تراب المسجد . و في معنا الجنب : الحائض و النفساء فيحرم عليهما المكث بالمسجد و التردد فيه و أيضا المرور إن خافتا تلويثه , صيانة له .
الدرس الخامس
التيمم
قال الله تعالى : { ... وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } آية 6 المائدة .
معنى الآية :
وإن كنتم جنباً عند القيام إلى الصلاة بسب ملامسة أزواجكم ، فاغسلوا جميع أبدانكم بالماء ، وأن كنتم مرضى مرضاً يمنع من استعمال الماء ، أو كنتم مسافرين يتعسر عليكم وجود الماء ، أو عند رجوعكم من مكان قضاء الحاجة ، أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء ، فعليكم بالتيمم بالتراب الطهور ، بمسح وجوهكم وأيديكم به . ما يريد الله فيما أمركم به أن يضيق عليكم ، ولكنه شرع ذلك لتطهيركم ظاهراً وباطناً وليتم نعمه عليكم بالهداية والبيان والتيسير ، لتشكروا الله على هدايته وتمام نعمته بالمداومة على طاعته .
الشرح الفقهي :
الآية دليل على التيمم بالصعيد الطيب و على مسح الوجه و اليدين منه , و دلت على أسبابه .
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى } قال ابن عباس : نزلت في المريض يتأذى بالوضوء , و في الرجل إذا كانت به جراحة في سبيل الله , أو القروح و الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم . إسناده حسن , و الأصح وقفه عليه .
فالمرض سبب من أسباب التيمم فمن يخاف معه من استعمال الماء على منفعة عضو أو طول مدّة مرض أو زيادته أو حدوث شين فاحش جاز له حينئذ التيمم . و شدة البرد كالمرض في جواز التيمم. و قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا } استنبط منه أنه لا يجوز التيمم لعادم ( فاقد) الماء إلا بعد طلب الماء فمتى طلبه فلم يجده , جاز له حينئذ التيمم . ففقد الماء سبب من أسباب التيمم . و كيفية طلب الماء مذكورة في كتب الفقه . و قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا } قال ابن عباس : هو التراب الطاهر , و قال الشافعي : تراب له غبار , و قوله حجة في اللغة , و يؤيده قوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } فإن الإتيان بمن الدالة على التبعيض يقتضي أن يمسح بشيء يحصل على الوجه و اليدين بعضه . فمن هنا يشترط في التيمم أن يكون بتراب له غبار و أن يكون التراب طاهراً . و أيضا أن يقصده لأن الآية آمرة بالتيمم و هو القصد , و النقل طريقه . و قوله تعالى : { فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ } دل على وجوب مسح الوجه , و اليدين مع المرفقين على وجه الاستيعاب , لأن الله تعالى أوجب طهارة الأعضاء الأربعة في الوضوء في أول الآية , ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية , فبقي العضوان في التيمم على ما ذكر في الوضوء , إذ لو اختلفا لبينهما كذا قاله الشافعي رحمه الله تعالى .
الدرس السادس
النجاسة
قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... } آية 3 المائدة. و قال تعالى : { إ ِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ... } آية 173 البقرة . و قال تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } آية 145 الأنعام .
معنى الآيات :
حرَّم الله عليكم - أيها المؤمنون - أكل لحم الميتة - وهى كل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي - ، وأكل الدم السائل ، ولحم الخنزير .
وإنما المحرم عليكم - أيها المؤمنون - الميتة التي لم تذبح من الحيوان ، ومن الدم المسفوح ، ومثله في التحريم لحم الخنزير .
قل - أيها النبي - : لا أجد الآن في مصدر التحليل والتحريم الذي أوحى به إلىَّ طعاماً محرماً على آكل يأكله ، إلا أن يكون هذا الشيء ميتة لم تذَكَّ ذكاة شرعية ، أو دماً سائلا ، أو لحم خنزير ، فإن ذلك المذكور ضارٌّ خبيث لا يجوز أكله أو أن يكون هذا الشيء المحرم فيه خروج من العقيدة الصحيحة ، بأن ذكر عند ذبحه اسم غير الله ، كصنم معبود آخر . فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات غير طالب اللذة بالأكل ، وغير متجاوز قدر الضرورة ، فلا حرج عليه لأن ربك غفور رحيم .
الشرح الفقهي : دلت الآيات على تحريم أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير , وعلى نجاستهن . و هذا بيان نجاستهن فيما يلي :
ـ أولاً الميتة :وهي ما زالت حياتها بذكاة شرعية . و دخل في نجاسة الميتة جميع أجزائها من عظم و شعر و صوف و وبر و غير ذلك , لأن كلاً منا تحله الحياة . و يستثنى من الميتة : ميتة السمك و الجراد فطاهرتان , بالإجماع و لقوله صلى الله عليه و سلم : « أحلت لنا ميتتان و دمان : السمك و الجراد , و الكبد و الطحال » , و قوله صلى الله عليه و سلم في البحر : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » و المراد بالسمك : كل ما أكل من حيوان البحر , و إن لم يسم سمكاً , كما هو مذكور في باب الأطعمة . و يستثنى أيضا ميتة الآدمي فإنها طاهرة لقوله تعالى : { و لقد كرمنا بني آدم } و قضية التكريم أن لا يحكم بنجاسته بالموت و سواء المسلم أو غيره . أما قوله تعالى : { إنما المشركون نجس } فالمراد نجاسة الاعتقاد , لا نجاسة الأبدان . و الجزء المنفصل من الحيوان كميتته طهارة و نجاسة . و يطهر جلد الميتة بالدّبغ .
ـ ثانياً الدم : و لا يكون الدم نجساً إلا إذا كان مسفوحاً أي : سائلاً , بخلاف غيره كالكبد و الطحال و العلقة . و تطهر نجاسة الدم بغسل محلها بالماء الطهور حتى تزول رائحتها و لونها و طعمها .
ـ ثالثاً الخنزير : قوله تعالى : { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فالمراد جملته , لأن لحمه دخل في عموم الميتة . و الرجس في عرف الشرع النجس . و الخنزير أسوأ حالاً من الكلب فمن هنا كان مثل الكلب في النجاسة و تغليظها . و تطهر نجاسة الكلب و الخنزير بغسل محلها بالماء سبع مرات إحداهن بتراب .
الدرس السابع
الحيض
قال الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} .آية 222 البقرة.
معنى الآية :
ويسألونك عن إتيان الزوجات زمن المحيض ، فأجبهم : أن المحيض أذى فامتنعوا عن إتيانهن مدته ، ولا تأتوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن في المكان الطبيعي ، ومن كان وقع منه شيء من ذلك فليتب ، فإن الله يحب من عباده كثرة التوبة والطهارة من الأقذار والفحش .
الشرح الفقهي :
دلت هذه الآية على منع الاستمتاع بالحائض , و على وجوب غسلها بعد الطهر من الحيض . قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } أي الحيض , و هو دم يخرج من أقصى رحم المرأة في أوقات الصحة . و أقله يوم و ليلة و أكثره خمسة عشر يوماً بلياليها , و غالبه ست أو سبع , كل ذلك باستقراء الإمام الشافعي و من وافقه , و أقل سن يتصور أن ترى الأنثى فيه حيضاً بعد تسع سنين قمرية , و أقل طهر فاصل بين الحيضتين خمسة عشر يوماً بلياليها , بالاستقراء أيضا . و قوله تعالى : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ } دل على منع الاستمتاع بالحائض بالمباشرة بوطء أو غيره بما تحت الإزار و هو ما بين السرة و الركبة , لأنه صلى الله عليه و سلم سئل عما يحل للرجل من امرأته و هي حائض فقال : « ما فوق الإزار » , و خص بمفهومه عموم خبر مسلم : « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » , و لأن الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الجماع فحرم لخبر « من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه » . و قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } تفسير قوله { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ } و المعنى يستمر تحريم ذلك إلى أن ينقطع الدم و تغتسل أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه . فدلت الآية على وجوب غسل الحائض بعد انقطاع الدم . و النفساء كالحائض فيما ذكر . و قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } فيه ندب و إرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . و فيه دلالة على تحريم الوطء في الدبر . و يستحب التصدق بما يساوي دينار أو نصف دينار لمن جامع امرأته في حالة حيضها .
الدرس الثامن
الصلاة و فريضتها و أوقاتها
قال الله تعالى : { ... فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا }آية 103 النساء . و قال تعالى :{ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } آية 78 الإسراء .
معنى الآيتان :
فأدوا الصلاة متكاملة فإن الصلاة قد فرضت على المؤمنين موقوتة بأوقاتها .
أقم الصلاة المفروضة من أول زوال الشمس من وسط السماء نحو الغرب إلى ظلمة الليل ، وهى صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وأقم صلاة الفجر التي تشهدها الملائكة . الشرح الفقهي : دلت الآية الأولى على أن الصلاة فرض , فقوله تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } أي محتمة مؤقتة , و قال ابن عباس : أي مفروضاً , و قال أيضاً : إن للصلاة وقتاً كوقت الحج .
فتجب الصلاة على كل مسلم بالغ عاقل طاهر وجوباً موسعاً إلى أن يبقى من وقتها ما يسعها مع مقدماتها إن احتاج إليها , فيجوز تأخيرها إلى ذلك بشرط أن يعزم على الفعل فيه . و يؤمر الصبي بها لسبع سنين و يضرب عليها لعشر سنين .
و دلت الآية الثانية على أوقات الصلاة , فدلوك الشمس ميلها عن وسط السماء و هو أول وقت الظهر و بعده وقت العصر إلى غسق الليل و هو ظهور ظلمته و هو وقت للمغرب و بعده وقت العشاء , و قرآن الفجر يعني صلاة الصبح , لأن وقتها يدخل بطلوع الفجر الصادق . إذا أوقات الصلاة خمسة تفصيلها كالتالي :
الأول : وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله غير ظل الاستواء إن وجد .
الثاني : وقت العصر من خروج وقت الظهر إلى غروب الشمس .
الثالث : وقت المغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق الأحمر .
الرابع : وقت العشاء من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق , و هو المنتشر ضوؤه معترضاً بالأفق أي نواح السماء .
الخامس : وقت الصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس.
الدرس التاسع
المحافظة على الصلوات
قال الله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } آية 238 البقرة .
معنى الآية :
احرصوا على إقامة الصلوات كلها ، وداوموا عليها ، واحرصوا على أن تكون صلاتكم هي الصلاة الفضلى بإقامة أركانها والإخلاص الكامل لله فيها ، وأتموا طاعة الله تعالى وذكره مخلصين له خاشعين لجلاله ، والصلاة الوسطى هي صلاة الفجر أو العصر على خلاف في الاجتهاد .
الشرح الفقهي : دلت الآية على المحافظة على الصلوات الخمس . و المحافظة عليها هي الإتيان بها بجميع شروطها و فرائضها و سننها و فعلها في أوقاتها , كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل ؟ قال : « الصلاة في وقتها » . و أفضل أحوال الصلاة المؤقتة من حيث الوقت مع عدم العذر أن توقع أول الوقت و لو عشاء , لأن ذلك من المحافظة عليها المأمور بها في قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } . ثم خص من بينها الصلاة الوسطى بالمحافظة عليها دلالة على فضلها والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء : خيره وأعدله واختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في الصلاة الوسطى فقال قوم : هي صلاة الفجر , وذهب قوم إلى أنها صلاة الظهر لأنها وسط النهار وهي أوسط صلاة النهار في الطول , وذهب الأكثرون إلى أنها صلاة العصر رواه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . و دلت الآية أيضا على عدم الكلام في الصلاة من غير جنسها , فعن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت رواه الجماعة سوى ابن ماجة .
الدرس العاشر
ستر العورة في الصلاة
قال الله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... } آية 31 الأعراف .
معنى الآية :
يا بني آدم : خذوا زينتكم من اللباس المادي الذي يستر العورة ، ومن اللباس الأدبي وهو التقوى ، عند كل مكان للصلاة ، وفى كل وقت تؤدون فيه العبادة .
الشرح الفقهي : دلت الآية على وجوب ستر العورة في الصلاة . فقوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قال ابن عباس : المراد به الثياب في الصلاة , ولقوله صلى الله عليه و سلم: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) رواه الحاكم والمراد بالحائض : البالغ التي بلغت سن الحيض لأن الحائض في زمن حيضها لا تصح صلاتها بخمار ولا غيره . فإن عجز وجب أن يصلي عاريا ويتم ركوعه وسجوده ولا إعادة عليه . والعورة لغة النقصان والشيء المستقبح وسمي المقدار الآتي بيانه بذلك لقبح ظهوره , والعورة تطلق على ما يجب ستره في الصلاة وهو المراد هنا . فعورة الرجل أي الذكر ما بين سرته وركبته لما روى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي قال : ( عورة المؤمن ما بين سرته إلى ركبته ) وكذا الأمة عورتها ما بين السرة والركبة . فألحقت بالرجل بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة , وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما من رؤوس الأصابع إلى الكوعين لقوله تعالى : {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } قال ابن عباس و عائشة رضي الله تعالى عنهم : هو الوجه والكفان .
وشرطه الساتر أن يمنع إدراك لون البشرة لا حجمها , و أن يشمل المستور لبسا ونحوه. ويجب ستر أعلى الساتر وجوانبه للعورة لا أسفله لها ولو كان المصلي امرأة .
ويسن للرجل أن يلبس للصلاة أحسن ثيابه ويتقمص ويتعمم ويتطيلس ويرتدي ويتزر أو يتسرول وإن اقتصر على ثوبين فقميص مع رداء أو إزار أو سراويل أولى من رداء مع إزار أو سراويل ومن إزار مع سراويل وبالجملة فالمستحب أن يصلي في ثوبين لظاهر قوله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } والثوبان أهم الزينة ولخبر : ( إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله تعالى أحق أن يزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود ) رواه البيهقي , فإن اقتصر على واحد فقميص فإزار فسراويل ويلتحف بالثوب الواحد إن اتسع ويخالف بين طرفيه فإن ضاق اتزر به وجعل شيئا منه على عاتقه, ويسن للمرأة في الصلاة ثوب سابغ لجميع بدنها وخمار وملحفة كثيفة , ويكره أن يصلي في ثوب فيه صورة وأن يصلي الرجل متلثما والمرأة متنقبة .
الدرس الحادي عشر
استقبال القبلة في الصلاة
قال الله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } آية 144 البقرة .
معنى الآية :
ولقد رأينا كيف كنت تتطلع إلى السماء عسى أن ينزل الوحي بتغيير قبلة بيت المقدس إلى الكعبة التي تحبها لأنها قبلة إبراهيم أبى الأنبياء ، وأبى اليهود والعرب ، و بها مقام إبراهيم ، فهي - لهذا - القبلة الجامعة وإن كانت تخالف قبلة اليهود ، فها نحن أولاء نؤتيك سؤلك فاستقبل في صلاتك المسجد الحرام ، واستقبلوه كذلك أيها المؤمنون في أي مكان تكونون ، وإن أهل الكتاب الذين ينكرون عليكم التحول عن قبلة بيت المقدس قد عرفوا في كتبهم أنكم أهل الكعبة ، وعلموا أن أمر الله جار على تخصيص كل شريعة بقبلة ، وأن هذا هو الحق من ربهم ، ولكنهم يريدون فتنتكم وتشكيككم في دينكم ، والله ليس غافلا عنهم وهو يجزيهم بما يعملون .
الشرح الفقهي : دلت الآية على وجوب استقبال القبلة بالصدر لا بالوجه على القادر. فقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي نحوه , والاستقبال لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته وهو خلاد بن رافع الزرقي الأنصاري : ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ) رواه الشيخان , ورويا أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل الكعبة أي وجهها وقال : ( هذه القبلة ) مع خبر : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فلا تصح الصلاة بدون استقبال القبلة إجماعا .
والقبلة في اللغة : الجهة . والمراد هنا الكعبة , سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وكعبة لارتفاعها . وقيل : لاستدارتها . أما العاجز عن الاستقبال كمريض لا يجد من يوجهه إليها ومربوط على خشبة فيصلي على حاله ويعيد وجوبا . فمن جهل القبلة وجب عليه طلب معرفتها بالاجتهاد إن عرف الدلائل و لم يجد من يخبره عن علم , و إلا صلى إلى أي جهة , وتلزمه الإعادة , و كذا يعيد إن تبين خطأ اجتهاده , و يجوز الاعتماد على محارب المسلمين الموثوقة في المساجد المطروقة . و لا يجب استقبال القبلة في صلاة شدة الخوف فيما يباح من قتال أو غيره فرضا كانت أو نفلا لقوله تعالى : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . رواه البخاري في التفسير . و لا يجب أيضا في نفل السفر المباح لقاصد محل معين , لأن النفل يتوسع فيه كجوازه قاعدا للقادر وخرج بذلك النفل في الحضر فلا يجوز وإن احتيج فيه للتردد كما في السفر لعدم وروده . والحكمة في التخفيف في ذلك على المسافر أن الناس محتاجون إلى الأسفار فلو شرط فيها الاستقبال للنفل لأدى إلى ترك أورادهم أو مصالح معايشهم . فللمسافر السفر المذكور التنفل راكبا . لحديث جابر قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به أي في جهة مقصده فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة ) رواه البخاري . وماشيا . قياسا على الراكب بل أولى . فان كان راكباً استقبل عند إحرامه فقط إن سهل , و توجه إلى جهة مقصده في سائر الصلاة , و إن كان ماشياً استقبل عند إحرامه و ركوعه و سجوده . و لا يجوز أن يصلي الفرض على المركوب , إلا لمن خاف ضرراً على نفسه , أو انقطاعاً عن رفقته , و عليه إعادتها .
الدرس الثاني عشر
صلاة الليل
قال الله تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } آية 79 الإسراء . و قال تعالى :{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } آية 16 السجدة . و قال تعالى :{ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } آية 17 الذاريات .
معنى الآيات :
وتيقظ من نومك في بعض الليل فتهجد بالصلاة عبادة زائدة على الصلوات الخمس خاصة بك ، رجاء أن يقيمك ربك يوم القيامة مقاماً يحمدك فيه الخلائق .
تتنحى جنوبهم عن مضاجعها . يدعون ربهم خوفاً من سخطه ، وطمعاً في رحمته ، ومن المال الذي رزقناهم به ينفقون في وجوه الخير .
كانوا ينامون قليلاً من الليل ، ويستيقظون أكثره للعبادة .
الشرح الفقهي : في هذه الآيات دليل على استحباب صلاة الليل و هو التهجد , لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه . والتهجد لغة دفع النوم بالتكلف واصطلاحا صلاة التطوع في الليل بعد النوم , سمي بذلك لما فيه من ترك النوم .
ويسن للمتهجد القيلولة وهو النوم قبل الزوال وهو بمنزلة السحور للصائم لقوله صلى الله عليه وسلم : « استعينوا بالقيلولة على قيام الليل » رواه أبو داود وابن ماجة .
و يكره تخصيص ليلة الجمعة بقيام بصلاة لخبر مسلم لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي أما إحياؤها بغير صلاة فلا يكره .
و يكره ترك تهجد اعتاده بلا عذر لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عبد الله « لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم تركه » رواه الشيخان , وينبغي أن لا يخل بصلاة الليل وإن قلت .
و يسن أن يوقظ من يطمع في تهجده ليتهجد قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظني فأوتر » , هذا إن لم يخف ضررا وإلا فلا يستحب ذلك بل يحرم . ويستحب أن ينوي الشخص القيام عند النوم وأن يمسح المستيقظ النوم عن وجهه وأن ينظر إلى السماء وأن يقرأ { إن في خلق السموات والأرض } إلى آخرها وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين . والسنة أن يتوسط في نوافل الليل المطلقة بين الجهر والإسرار , وإطالة القيام فيها أفضل من تكثير عدد الركعات , وأن ينام من نعس في صلاته حتى يذهب نومه , ولا يعتاد منه غير ما يظن إدامته عليه . ويتأكد إكثار الدعاء والاستغفار في جميع ساعات الليل وفي النصف الأخير و عند السحر أفضل .
الدرس الثالث عشر
صلاة الجماعة
قال الله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ... } آية 102 النساء .
معنى الآية :
و إذا كنت أيها الرسول في جماعتك وقامت صلاة الجماعة فلا تنسوا الحذر من الأعداء . . دع طائفة منهم تصلي معك فيما تقف الطائفةُ الأخرى قبالة العدو يحرسون إخوانهم المصلّين .
الشرح الفقهي :
دلت الآية على وجوب صلاة الجماعة وجوباً كفائياً , لأنه أمر بها في الخوف ففي الأمن أولى . و لقوله صلى الله عليه وسلم ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان أي غلب فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم . وأقلها إمام ومأموم , و وجوبها للرجال الأحرار المقيمين فلا تجب على النساء ولا على من فيه رق لاشتغالهم بخدمة السادة ولا على المسافرين . و تجب بحيث يظهر الشعار بإقامتها بمحل في القرية الصغيرة , وفي الكبيرة والبلد بمحال يظهر بها الشعار, ويسقط الطلب بطائفة وإن قلت فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت ولم يظهر بها شعار لم يسقط الفرض . فإن امتنعوا كلهم من إقامتها على ما ذكر قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس وهكذا لو تركها أهل محلة في القرية الكبيرة أو البلد . و الجماعة في المسجد لغير المرأة أفضل منها في غير المسجد كالبيت , وجماعة المرأة في البيت أفضل منها في المسجد لخبر الصحيحين ( صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فهي في المسجد أفضل ) لأن المسجد مشتمل على الشرف والطهارة وإظهار الشعائر وكثرة الجماعة , وقال صلى الله عليه وسلم ( لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن ) رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط الشيخين ,.ويكره لذوات الهيئات حضور المسجد مع الرجال . وما كثر جمعه من المساجد أفضل مما قل جمعه منها وكذا ما كثر جمعه من البيوت أفضل مما قل جمعه منها , فالصلاة في الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة في الجماعة القليلة فيما ذكر , والصلاة في المساجد الثلاثة وإن قلت الجماعة فيها أفضل منها في غيرها وإن كثرت . و تدرك الجماعة ما لم يسلم الإمام وإن لم يقعد معه بأن انتهى سلامه عقب تحرمه وإن بدأ بالسلام قبله لإدراكه ركنا معه لكنه دون فضل من يدركها من أولها , ولا يخفى أن محل ذلك في غير الجمعة فإنها لا تدرك إلا بركعة. أما إذا سلم مع تحرمه بأن انتهى تحرم المأموم مع انتهاء سلام الإمام فلا تحصل له الجماعة بل تنعقد صلاته فرادى . و لا يعذر في ترك الجماعة إلا لعذر صحيح كالمرض و المطر و الخوف على نفس أو مال , و شدة الحر و البرد , و شدة الجوع و العطش .
الدرس الرابع عشر
صلاة المسافر
قال الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا }آية 101 النساء .
معنى الآية :
الصلاة فريضة محكمة لا تسقط في السفر ، ولكن لا إثم على من يقصرها فيه عن الحضر . فالذين يخرجون مسافرين - إن خافوا أن يتعرض لهم الكافرون بما يكرهون - لهم أن يقصروا الصلاة ، فالصلاة التي هي أربع ركعات يصلونها اثنتين ، وإن الحذر من تعرض الكافرين واجب لأنهم أعداء ، عداوتهم واضحة .
الشرح الفقهي :
دلت الآية على قصر الصلاة للمسافر إذا خاف العدو , و له القصر و إن كان آمنا , فعن يَعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} فقد أمن الناس , فقال : عجبتُ مما عجبت منه , فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك , فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) , رواه مسلم . و إنما يجوز للمسافر قصر الصلاة المكتوبة المؤاداة في السفر الطويل المباح لا فائتة الحضر . و السفر الطويل هو مرحلتان وهما سير يومين معتدلين بسير الأثقال مع المعتاد من النزول و الاستراحة و الأكل و نحوها . و ابتداء السفر مجاوزة السور في البلدة المسورة و فيما لا سور له مجاوزة العمران و إن تخلله خراب و بساتين . و ينتهي سفره ببلوغه ما شرط مجاوزته ابتداء و بنية إقامة أربعة أيام تامة بلياليها بموضع عينه , فينقطع سفره بوصول ذلك الموضع , و لو أقام أربعة أيام بلا نية انقطع سفره بتمامها لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض فقال تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } و المقيم و العازم على الإقامة غير ضارب في الأرض , و السنة بينت أن ما دون الأربعة لا يقطع السفر , ففي الصحيحين ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً ) و كان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة و مساكنة الكفار , فالترخص في الثلاث يدل على بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة , و ألحق بإقامة الأربعة نية إقامتها . و إذا أقام المسافر ببلد بنية أن يرحل إذا حصلت حاجة يتوقعها كل وقت قصر ثمانية عشر يوماً غير يومي الدخول و الخروج , لأنه صلى الله عليه و سلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصلاة . رواه أبو داود عن عمران بن حصين و الترمذي و حسنه , و إن كان في سنده ضعف لأنه له شواهد تجبره . و للقصر شروط أحدها أن يكون السفر طويلاً , و الثاني قصد محل معلوم , و الثالث أن يكون السفر جائزاً فلا قصر في غيره , و الرابع عدم اقتدائه بمن جهل سفره أو بمقيم , و الخامس نية القصر في الإحرام , و السادس التحرز عما ينافي نية القصر , و السابع دوام سفره في جميع صلاته , و الثامن العلم بجواز القصر . و القصر أفضل من الإتمام إذا بلغ سفره ثلاث مراحل , و خروجاً من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة .
الدرس الخامس عشر
صلاة الجمعة
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } آية 9 الجمعة .
و قال: تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } آية 11 الجمعة .
معنى الآيتان :
يا أيها الذين آمنوا إذا أُذِّنَ للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله . حريصين عليه ، واتركوا البيع ، ذلكم الذي أُمرتم به أنفع لكم إن كنتم تعلمون .
وإذا أبصروا متاعاً للتجارة أو لهواً تفرقوا إليها وتركوك قائماً تخطب ، قل : إن ما عند الله من الفضل والثواب أنفع لكم من اللهو ومن التجارة ، والله خير الرازقين ، فاطلبوا رزقه بطاعته .
الشرح الفقهي : دلت الآية الأولى على وجوب صلاة الجمعة وجوباً عينياً عند اجتماع شروطها . و على ترك البيع لصلاتها . فالأمر بالسعي يعني الوجوب وما نهى عن البيع الذي هو مباح إلا لواجب . و الجمعة : بضم الميم و إسكانها و فتحها , سميت بذلك لاجتماع الناس لها . و كان يومها يسمى في الجاهلية يوم العروبة أي المبين المعظم . و هي أفضل الصلوات , و يومها أفضل الأيام . و فرضت و النبي صلى الله عليه و سلم بمكة , و لم يصليها حينئذ إما لأنه لم يكمل عددها عنده , أو لأن من شعارها الإظهار , و كان النبي صلى الله عليه و سلم مستخفياً . و إنما تجب وجوب عين لصحتها على كل مسلم بالغ عاقل حُر ذكر مقيم بلا مرض و نحوه . و المراد بالنداء في الآية النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج فجلس على المنبر . و قوله تعالى في الآية : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي اتركوا البيع إذا نودي للصلاة , لهذا يحرم على من تلزمه الجمعة التشاغل بالبيع و غيره بعد الشروع في الأذان الثاني الذي بين يدي الخطيب حال جلوسه على المنبر , فورد نص الآية في البيع و قيس عليه غيره . فإن باع من حرم عليه البيع صح بيعه , لأن النهي لمعنى خارج عن العقد . و يكره البيع قبل الأذان المذكور بعد الزوال لدخول وقت الوجوب .
و دلت الآية الثانية على خطبة الجمعة و القيام لها . فقوله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } أي على المنبر تخطب , فدل على أن الأمام يخطب يوم الجمعة قائماً , و قد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : كانت للنبي صلى الله عليه و سلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن و يذكر الناس . و يستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها , و أن يلبس أحسن ثيابه و يتطيب و يتنظف . و يسن التبكير إليها ماشياً و أن يقرأ سورة الكهف يومها و ليلتها و يكثر الدعاء و الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم يومها و ليلتها . و يحرم السفر بعد فجر يومها إلا لمن علم إدراكها في طريقه أو مقصده , أو يخاف تخلفه عن الرفقة . و من شروطها : أن تصلى في وقت الظهر و في جماعة , و أن تقام في خطة البلد , و أن تكون جمعة واحدة إلا إذا عسر الاجتماع , فتتعدد بحسب الحاجة .
الدرس السادس عشر
صلاة الخوف
قال الله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } آية 102 النساء .
معنى الآية :
وإذا كنت - أيها النبي الأمين - فيهم وقامت صلاة الجماعة ، فلا تنسوا الحذر من الأعداء ، وذلك بتقسيم المسلمين إلى طائفتين : إحداهما تبدأ الصلاة مقتدية بك ، وتكون الأخرى قائمة على الأسلحة والأمتعة لحراستها ، فإذا أتممت نصف الصلاة ذهبت التي صلت وراءك وجاءت الأخرى فصليت بها الباقي ، ثم تصلى ما فاتها وتصلى الأولى بقية الصلاة ، وتسمى لاحقة والأخرى مسبوقة ، إذ تؤدى أول الصلاة ، واللاحقة تؤدى آخرها ، وذلك التنظيم لكي لا تفوت الصلاة ، وللحذر من الكافرين الذين يودون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا عليكم دفعة واحدة ، ويَنْقَضوُّا عليكم وأنتم في الصلاة ، وأن قتال المشركين مستمراً واجب ، ولكن لا إثم عليكم أن تسكنوا إذا كان بكم مرض أو نزل مطر عاق عن القتال ، ولكن على أن تكونوا على حذر دائم ، وهذا عقاب الله للكافرين في الدنيا ، وفى الآخرة أعد لهم عذاباً مهيناً مذلاً .
الشرح الفقهي :
دلت الآية على صلاة الخوف , وأما دعوى المزني نسخها لتركه صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق فأجابوا عنها بتأخر نزولها عنه لأنها نزلت سنة ست والخندق كان سنة أربع أو خمس . قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه و سلم في أيام مختلفة و أشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة و أبلغ في الحراسة , فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى . و جاءت في الأخبار على ستة عشر نوعاً واختار منها الشافعي رضي الله تعالى عنه أربعة أنواع نذكرها كالتالي :
النوع الأول : و هو الذي ذكر في الآية و هو أن يكون العدو في غير جهة القبلة أو فيها وثم ساتر وهو قليل وفي المسلمين كثرة وخيف هجومه فيفرقهم الإمام فرقتين بحيث تكون كل فرقة تقاوم العدو , فرقة تقف في وجه العدو للحراسة و فرقة تقف خلفه , فيصلي بالفرقة التي خلفه ركعة من الثنائية , ثم إذا قام الإمام للثانية فارقته بالنية و تتم لنفسها الركعة الثانية و تمضي بعد سلامها إلى وجه العدو للحراسة , و تجيء الفرقة الأخرى فيصلي بها ركعة فإذا جلس الإمام للتشهد قامت و تتم لنفسها ثانيتها ثم يسلم بها , و هذه صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بذات الرقاع .
النوع الثاني : أن يكون العدو في جهة القبلة و لا ساتر بيننا و بينهم , و فينا كثرة بحيث تقاوم كل فرقة العدو , فيصفهم الإمام صفين فأكثر خلفه و يحرم بهم جميعناً , و يستمرون معه إلى الاعتدال الركعة الأولى فإذا سجد في الركعة الأولى سجد معه أحد الصفين و وقف الصف الأخر يحرسهم فإذا رفع سجدوا و لحقوه في الركعة الثانية , و سجد مع الإمام في الركعة الثانية من حرس أولاً , و حرست الفرقة الساجدة أولاً مع الإمام . فإذا جلس الإمام للتشهد سجد من حرس في الركعة الثانية , و تشهد الإمام بالصفين و سلم بهم . و هذه صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعسفان .
النوع الثالث : أن يكون العدو في غير جهة القبلة أو فيها وثم ساتر وهو قليل وفي المسلمين كثرة وخيف هجومه فيرتب الإمام القوم فرقتين فيصلي بهم مرتين كل مرة بفرقة جميع الصلاة سواء أكانت الصلاة ركعتين أم ثلاثا أم أربعا , وتكون الفرقة الأخرى تجاه العدو وتحرس , ثم تذهب الفرقة المصلية إلى وجه العدو وتأتي الفرقة الحارسة فيصلي بها مرة أخرى جميع الصلاة وتقع الصلاة الثانية للإمام نافلة. و هذه صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل .
النوع الرابع : أن يكون فعلهم