بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
أما بعد فهذه دروس مشتملة على فضائل و آداب , اقتطفتها من كتاب الأذكار النووية للإمام النووي . فمن الجدير تدريسها في المجالس العامة و المساجد , و في البيوت . لما تعود به من النفع و الفائدة المرجوة .
و صلى الله و سلم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله رب العالمين .
بقلم
راجي عفو ربه الأجل
سليمان بن يحيى بن عبد الله الأهدل
الدرس الأول
تلاوة القرآن الكريم تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بالتدبر وللقراءة آدابٌ ومقاصد . فينبغي أن يحافظ على تلاوته ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً وقد كانت للسلف رضي اللّه عنهم عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه فكان جماعةٌ منهم يختمون في كل شهرين ختمة وآخرون في كل شهر ختمة وآخرون في كل عشر ليال ختمة وآخرون في كل ثمان ليالٍ ختمة وآخرون في كل سبع ليالٍ ختمة وهذا فعل الأكثرين من السلف وآخرون في كل ستّ ليال وآخرون في خمس وآخرون في أربع وكثيرون في كل ثلاث وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين . وآخرون في كل يوم وليلة ثلاث ختمات وختم بعضهم في اليوم والليلة ثماني ختمات أربعاً في الليل وأربعاً في النهار وأما وقت الابتداء والختم فهو إلى خيرة القارئ فإن كان ممّن يختم في الأسبوع مرّة فقد كان عثمان رضي اللّه عنه يبتدئ ليلة الجمعة ويختم ليلة الخميس وقال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء : الأفضل أن يختم ختمة بالليل وأخرى بالنهار ويجعل ختمة النهار يوم الاثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما ويجعل ختمة الليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما ليستقبل أوّل النهار وآخره . وروى ابن أبي داود عن عمرو بن مرّة التابعي الجليل رضي اللّه عنه قال : كانوا يحبّون أن يختم القرآن من أوّل الليل أو من أوّل النهار . وعن طلحة بن مصرف التابعي الجليل الإِمام قال : من ختم القرآن أية ساعة كانت من النهار صلّتْ عليه الملائكةُ حتى يمسي وأية ساعة كانت من الليل صلَّت عليه الملائكةُ حتى يُصبح .والأوقات المختارة للقراءة ما كان في الصلاة وأما القراءةُ في غير الصلاة فأفضلُها قراءة الليل والنصف الأخير منه أفضل من الأوّل والقراءةُ بين المغرب والعشاء محبوبة . وأما قراءةُ النهار فأفضلُها ما بعد صلاة الصبح ولا كراهة في القراءة في وقت من الأوقات ولا في أوقات النهي عن الصلاة . ويختار من الأيام : الجمعة والاثنين والخميس ويوم عَرَفَة ومن الأعشار : العشر الأوّل من ذي الحجة والعشر الأخير من رمضان ومن الشهور : رمضان و من آداب الختم أن الختم للقارئ وحدَه يُستحب أن يكون في صلاة . وأما من يختم في غير صلاة والجماعة الذين يختمون مجتمعين فيُستحبّ أن يكون ختمُهم في أوّل الليل أو في أوّل النهار. ويُستحبّ صيام يوم الختم إلا أن يُصادف يوماً نهى الشرعُ عن صيامه . وقد صحّ عن طلحة بن مصرّف والمسيّب بن رافع وحبيب بن أبي ثابت التابعيّينَ الكوفيّينَ رحمهم اللّه أجمعين أنهم كانوا يُصبحون صياماً اليوم الذي يختمون . ويُستحبّ حضورُ مجلس الختم لمن يقرأ ولمن لا يُحسن القراءة . ويُستحبّ الدعاء عند الختم استحباباً متأكداً شديداً وينبغي أن يُلحّ في الدعاء وأن يدعوَ بالأمور المهمة والكلمات الجامعة وأن يكون معظم ذلك أو كله في أمور الآخرة وأمور المسلمين وصلاح سلطانهم وسائر ولاة أمورهم وفي توفيقهم للطاعات وعِصمتهم من المخالفات وتعاونهم على البرّ والتقوى وقيامهم بالحقّ واجتماعهم عليه وظهورهم على أعداء الدين وسائر المخالفين. وإذا فرغ من الختمة فالمستحبّ أن يشرع في أخرى متصلاً بالختم فقد استحبّه السَّلفُ واحتجّوا فيه بحديث : أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " خَيْرُ الأعْمالِ الحَلُّ وَالرِّحْلَةُ " قيل : وما هما ؟ قال : ( افْتِتاحُ القُرآنِ وَخَتْمُهُ ) . وهناك آداب ينبغي للقارئ الاعتناء بها وهي كثيرة جداً منها : الإِخلاص في قراءته وأن يُريدَ بها اللَّهَ سبحانه وتعالى وأن لا يقصدَ بها توصلاً إلى شيء سوى ذلك وأن يتأدَّبَ مع القرآن ويستحضرَ في ذهنه أنه يناجي اللَّهَ سبحانه وتعالى ويتلو كتابه و ينبغي أنه إذا أراد القراءة أن ينظّفَ فَمَهُ بالسِّواك وغيره و أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع فهذا هو المقصود المطلوب و به تنشرح الصدور وتستنير القلوب ويستحبّ تحسين الصوت بالقراءة وتزيينها وإذا ابتدأ من وسط السورة أن يبتدئ من أوّل الكلام المرتبط بعضه ببعض وكذلك إذا وقفَ يقفَ على المرتبط وعند انتهاء الكلام .
الدرس الثاني
الذكر
قال اللّه تعالى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] وقال تعالى : { فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] وقال تعالى : { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحينَ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصّافّات : 143 ] وقال تعالى : { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء: 20 ] . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت ] رواه البخاري , ورواه مسلم فقال : [ مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ] , وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ] متفق عليه , وعنه رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ سبق المفردون ] قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : [ الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ] رواه مسلم . و كما يُستحبُّ الذكر يُستحبُّ الجلوس في حِلَق أهله وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ويكفي في ذلك حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا . قالُوا : وَمَا رِياضُ الجَنَّةِ يا رَسُولَ اللّه ؟ قالَ : حِلَقُ الذّكْرِ فإنَّ للّه تعالى سَيَّارَاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ " وروى مسلم عن معاوية رضي اللّه عنه أنه قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال : " ما أجْلَسَكُم ؟ قالوا : جلسنا نذكُر اللّه تعالى ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا قال : آللّه ما أجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ ؟ قالوا : واللَّهِ ما أجلسنا إلاّ ذاك قال : أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ اللّه تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ ) . و الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل ثم لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ اللّه تعالى . اعلم أن فضيلة الذكر غيرُ منحصرةٍ في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها بل كلُّ عاملٍ للّه تعالى بطاعةٍ فهو ذاكرٌ للّه تعالى كذا قاله سعيدُ بن جُبير رضي اللّه عنه و غيره من العلماء . وقال عطاء رحمه اللّه : مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ وأشباه هذا . و أجمع العلماءُ على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحْدِث والجُنب والحائض والنفساء وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والدعاء وغير ذلك . ولكنَّ قراءة القرآن حرامٌ على الجُنب والحائض والنفساء سواءٌ قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية ويجوز لهم إجراءُ القرآن على القلب من غير لفظ وكذلك النَّظَرُ في المصحف وإمرارُه على القلب . و ينبغي أن يكون الذاكرُ على أكمل الصفات فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس مُتذلِّلاً مُتخشعاً بسكينة ووقار مُطرقاً رأسه ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقه لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل . والدليل على عدم الكراهة قول اللّه تعالى : { إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأَرْض واخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأُولِي الألْبابِ . الَّذينَ يَذْكرُونَ اللّه قِياماً وَقُعوداَ وَعلى جُنوبِهمْ وَيَتَفكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ . . } [ آل عمران : 190 - 191 ] وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن . رواه البخاري ومسلم . وفي رواية : ورأسه في حجري وأنا حائض. وجاء عن عائشة رضي اللّه عنها أيضاً قالت : إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعةٌ على السرير . وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خالياً نظيفاً فإنه أعظمُ في احترام الذكر المذكور ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة . اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبةً كانت أو مستحبةً لا يُحسبُ شيءٌ منها ولا يُعتدّ به حتى يتلفَّظَ به بحيثُ يُسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له.
الدرس الثالث
الحمد قال اللّه تعالى : { قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ على عبادِهِ الَّذينَ اصْطَفى } [ النمل : 59 ] وقال اللّه تعالى : { وقَُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ } [ النمل : 93 ] وقال تعالى : { وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } [ الإِسراء : 111 ] وقال تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] وقال تعالى : { فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لي وَلا تَكْفُرونِ } [ البقرة : 152 ] والآيات المصرّحة بالأمر بالحمد والشكر وبفضلهما كثيرة معروفة . وفي سنن أبي داود وابن ماجه ومسند أبي عوانة الإِسفرايني المخرَّج على صحيح مسلم رحمهم اللّه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " كُلُّ أمْر ذِي بالٍ لا يُبْدأُ فِيهِ بالحَمْدِ لِلَّهِ أقْطَعُ " وفي رواية " بَحَمْدِ اللَّهِ " وفي رواية : " بالحَمْدِ فَهُوَ أقْطَعُ " وفي رواية " كُل كَلامٍ لايُبْدأُ فِيهِ بالحَمْد لِلَّهِ فَهُوَ أجْذَمُ " . وعن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " إذا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قالَ اللَّهُ تَعالى لِمَلائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَة فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : فَمَاذَا قالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةَ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ " رواه الترمذي وغيره , وقال الترمذي : حديث حسن . وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها ] رواه مسلم والأحاديث في فضل الحمد كثيرة مشهورة . قال العلماء : فيُستحبّ البداءة بالحمد للَّه لكل مصنف ودارس ومدرِّس وخطيب وخاطب وبين يدي سائر الأمور المهمة . قال الشافعي رحمه اللّه : أحبّ أن يقدّم المرء بين يدي خطبته وكل أمر طلبه : حمد اللّه تعالى والثناء عليه سبحانه وتعالى والصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . ويُستحب بعد الفراغ من الطعام والشراب والعطاس وعند خطبة المرأة وهو طلب زواجها وكذا عند عقد النكاح وبعد الخروج من الخلاء يُستحبّ حمدُ اللّه تعالى عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه سواء حصل ذلك لنفسه أو لصاحبه أو للمسلمين . عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في حديث الشورى الطويل أن عمر رضيَ اللّه عنه أرسلَ ابنه عبد اللّه إلى عائشة رضي اللّه عنها يستأذنُها أن يُدفن مع صاحبيه فلما أقبلَ عبدُ اللّه قال عمر : ما لديك ؟ قال : الذي تُحبُّ يا أميرَ المؤمنين أذِنَتْ قال : الحمدُ للّه ما كان شيءٌ أهمَّ إليّ من ذلك . رواه البخاري . يُستحبّ أن يختم دعاءه بالحمد للّه ربّ العالمين وكذلك يبتدئه بالحمد للّه قال اللّه تعالى : { وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلَّه رَبّ العالَمِينَ } [ يونس : 10 ] .
الدرس الرابع
الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم
قال اللّه تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبيّ يا أيُّها الَّذين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [ الأحزاب : 56 ] والأحاديث في فضلها والأمر بها أكثر من أن تُحصر , فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ) رواه مسلم . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " أوْلى النَّاسِ بي يَوْمَ القِيامَةَ أَكْثَرُهُمْ عَليَّ صَلاةً " رواه مسلم . وعن عليّ رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ " . رواه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح . و قال عند هذا الحديث : يروى عن بعض أهل العلم قال : إذا صلى الرجل على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مرّة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس . وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال :قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيداً وَصَلُّوا عليَّ فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ] . رواه أبو داود بإسناد صحيح . وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " رَغِمَ أنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَليَّ " . رواه الترمذي و قال : حديث حسن . و إذا صلَّى على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فليجمعْ بين الصلاة التسليم ولا يقتصرْ على أحدهما فلا يقل " صلّى اللّه عليه " فقط ولا " عليه السلام " فقط . يُستحبّ لقارىء الحديث وغيره ممّن في معناه إذا ذكر رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يرفَعَ صوته بالصلاة عليه والتسليم ولا يبالغ في الرفع مبالغة فاحشة . و أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد للّه تعالى والثناء عليه ثم الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذلك يختم الدعاء بهما والآثار في هذا الباب كثيرة معروفة منها ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن فَضَالة بن عُبيد رضي اللّه عنه قال : سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّدِ اللّه تعالى ولم يصلّ على النبيّ صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله وسلم : " عَجِلَ هَذَا " ثم دعاه فقال له أو لغيره : " إذَا صَلَّى أحَدُكُمْ فَلْيَبْدأ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ وَالثَّناءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي على النَّبِيّ صلى اللّه عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شاءَ " قال الترمذي : حديث حسن صحيح. و أجمعوا على الصلاة على نبيّنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وكذلك أجمع من يُعتدّ به على جوازها واستحبابها على سائر الأنبياء والملائكة استقلالاً . وأما غيرُ الأنبياء فالجمهور على أنه لا يُصلّى عليهم ابتداء فلا يقال : أبو بكر صلى اللّه عليه وسلم . واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعاً لهم في الصلاة فيُقال : اللَّهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وأصحابه وأزواجه وذرِّيته وأتباعه للأحاديث الصحيحة في ذلك وقد أُمرنا به في التشهد ولم يزل السلفُ عليه خارج الصلاة أيضاً . وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجوينيُّ : هو في معنى الصلاة فلا يُستعمل في الغائب فلا يفرد به غير الأنبياء فلا يُقال : عليّ عليه السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات . وأما الحاضر فيُخاطب به فيقال : سلام عليك أو : سلام عليكم أو : السَّلام عليك أو : عليكم وهذا مجمع عليه . و يُستحبّ الترضّي والترحّم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعبَّاد وسائر الأخيار فيقال : رضي اللّه عنه أو رحمه اللّه ونحو ذلك . وأما ما قاله بعض العلماء : إن قوله رضي اللّه عنه مخصوص بالصحابة ويُقال في غيرهم : رحمه اللّه فقط فليس كما قال ولا يوافق عليه بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه ودلائله أكثر من أن تُحصر فإن كان المذكور صحابياً ابن صحابي قال : قال ابن عمر رضي اللّه عنهما وكذا ابن عباس وابن الزبير وابن جعفر وأُسامة بن زيد ونحوهم لتشمله وأباه جميعاً .
الدرس الخامس
الدعاء قال الله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }( غافر 60 ) وقال تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين }( الأعراف 55 ) وقال تعالى: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان }( البقرة 186 ) وقال تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } ( النمل 62 ) . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ الدعاء هو العبادة ] رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك . رواه أبو داود بإسناد جيد . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال : " لَيْسَ شَيْءٌ أكْرَمَ على اللَّهِ تَعالى مِنَ الدُّعاءِ ". رواه الترمذي وابن ماجه . و عن أبي هريرة قال : قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ تَعالى لَهُ عنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ . رواه الترمذي . وعن أنس رضي الله عنه قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : [ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] متفق عليه زاد مسلم في روايته قال : [ وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ] . وقال الإِمام أبو حامد الغزالي في الإِحياء : آدابُ الدعاء عشرة :الأول : أن يترصَّدَ الأزمان الشريفة كيوم عَرَفَة وشهر رمضان ويوم الجمعة والثلث الأخير من الليل ووقت الأسحار , و الثاني : أن يغتنمَ الأحوالَ الشريفة كحالة السجود والتقاء الجيوش ونزول الغيث وإقامة الصلاة وبعدَها . قال النووي : وحالة رقّة القلب , و الثالث : استقبالُ القبلة ورفعُ اليدين ويمسحُ بهما وجهه في آخره , و الرابع : خفضُ الصوت بين المخافتة والجهر , و الخامس أن لا يتكلَّف السجعَ وقد فسَّر به الاعتداء في الدعاء والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة فما كل أحد يُحسن الدعاءَ فيخاف عليه الاعتداء . وقال بعضهم : ادعُ بلسان الذلّة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق ويُقال : إن العلماء والأبدال لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات ويشهد له ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى في آخر سورة البقرة { رَبَّنا لا تُؤَاخِذْنا } إلى آخرها [ البقرة : 286 ] لم يخبر سبحانه في موضع عن أدعية عباده بأكثر من ذلك . قلتُ : ومثلهُ قول اللّه سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم : { وَإِذْ قالَ إِبْرَاهِيمُ : رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً } إلى آخره [ إبراهيم : 35 ] . قال النووي : والمختار الذي عليه جماهير العلماء أنه لا حجرَ في ذلك ولا تُكرهُ الزيادةُ على السبع بل يُستحبّ الإِكثارُ من الدعاء مطلقاً , و السادس : التضرّعُ والخشوعُ والرهبة قال اللّه تعالى : { إنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لَنا خاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] وقال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] , و السابع : أن يجزمَ بالطلب ويُوقن بالإِجابة ويصدقَ رجاءه فيها ودلائلُه كثيرةٌ مشهورة . قال سفيان بن عُيينة رحمه اللّه : لا يمنعنّ أحدَكم من الدعاء ما يعلمُه من نفسه فإن اللّه تعالى أجاب شرّ المخلوقين إبليس إذ { قال أنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قالَ إِنَّكَ منَ المُنْظَرِينَ } [ الأعراف : 14 - 15 ] , و الثامن : أن يُلحّ في الدعاء ويكرّره ثلاثاً ولا يستبطىء الإِجابة , و التاسع : أن يفتتح الدعاء بذكر اللّه تعالى . قلتُ : وبالصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد الحمد للّه تعالى والثناء عليه ويختمه بذلك كله أيضاً , و العاشر : وهو أهمّها والأصل في الإِجابة وهو التوبةُ وردُّ المظالم والإِقبال على اللّه تعالى . و يسن رفع اليدين في الدعاء و مسح الوجه بهما , عن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال : كان رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطَّهما حتى يمسحَ بهما وجهَها . رواه الترمذي . و يسن تكرير الدعاء ثلاثاً , عن ابن مسعود رضي اللّه عنه : أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يُعجبُه أن يدعوَ ثلاثاً ويستغفرَ ثلاثاً . رواه أبو داود . و يسن الدعاء بظهر الغيب , عن أبي الدرداء رضي اللّه تعالى عنه أنه سمعَ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلمٍ يَدْعُو لأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إِلاَّ قَالَ المَلَكُ : وَلَكَ بِمِثْلٍ " رواه مسلم وفي رواية أخرى في صحيحه عن أبي الدرداء أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول : " دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأخِيهِ بِظَهْرِ بالغَيْبِ مُسْتَجابَةٌ عِنْدَ رأسهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعا لأخِيهِ بِخَيْرٍ قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ ". و علم أنَّ دعاء المسلم يُجاب بمطلوبه أو غيره , عن عُبادة بن الصامت رضي اللّه تعالى عنه : أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " ما على وَجْهِ الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ تَعالى بِدَعْوَةٍ إلاَّ آتاهُ اللَّهُ إيَّاها أوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَها ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ أوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ " فقال رجل من القوم : إذا نكثر قال : " اللّه أكْثَرُ " رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .
الدرس السادس
السلام
قال اللّه سبحانه وتعالى : { فإذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا على أنْفُسِكُم تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } [ النور : 61 ] وقال تعالى : { وَإذَا حُيِّيْتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْها أوْ رُدُّوها } [ النساء : 86 ] وقال تعالى : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهْلِها } [ النور : 27 ] , وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما أنَّ رجلاً سأل رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أيُّ الإِسلام خَيْرٌ ؟ قال : " تُطْعِمُ الطَّعامَ وَتَقْرأُ السَّلام على مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ رواه البخاري ومسلم . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا وَلا تُؤْمِنُوا حتَّى تحابُّوا أوْلا أدُلُّكُمْ على شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ ؟ أفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ . رواه مسلم . واعلم أن الأفضل أن يقول المسلم : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحداً ويقولُ المجيب : وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَركاتُه ويأتي بواو العطف في قوله : وعليكم , ودليله ما في مسند الدارمي وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن الحصين رضي اللّه عنهما قال : " جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فقال : السلام عليكم فردّ عليه ثم جلس فقال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم : عَشْرٌ ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه فردّ عليه ثم جلس فقال : عِشْرُونَ ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه فردّ عليه فجلس فقال : " ثلاثُونَ " . فقال الترمذي : حديث حسن وفي رواية لأبي داود من رواية معاذ بن أنس رضي اللّه عنه زيادة على هذا قال : " ثم أتى آخر فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته فقال : أرْبَعُونَ وقال : هَكَذَا تَكُونُ الفَضَائِلُ . وأقل السَّلام الذي يصير به مؤدّياً سنّة السلام أن يرفع صوته بحيث يُسمع المسلَّم عليه فإن لم يُسْمعه لم يكن آتياً بالسلام فلا يجب الردّ عليه . وأقلّ ما يسقط به فرض ردّ السلام أن يرفع صوتَه بحيث يسمعه المسلِّم فإن لم يسمعه لم يسقط عنه فرض الردّ ذكرهما المتولي وغيره قال النووي : والمستحبّ أن يرفع صوته رفعاً يسمعه به المسلَّم عليه أو عليهم سماعاً محققاً وإذا تشكك في أنه يسمعهم زاد في رفعه واحتاط واستظهر أما إذا سلَّم على أيقاظ عندهم نيام فالسنّة أن يخفضَ صوتَه بحيث يَحصل سماعُ الأيقاظ ولا يستيقظ النيام . في حديث المقداد رضي اللّه عنه الطويل قال : كنّا نرفع للنبيّ صلى اللّه عليه وسلم نَصيبه من اللبن فيجيء من الليل فيسلّم تسليماً لا يُوقظ نائماً ويُسمِع اليقظانَ وجعل لا يجيئني النوم وأما صاحباي فناما فجاء النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فسلَّم كما كان يُسلِّم . رواه مسلم . ويُشترط أن يكون الجواب على الفور فإن أخَّرَه ثم ردّ لم يعدّ جواباً وكان آثماً بترك الردّ . و اعلم أن ابتداء السَّلامِ سنَّةٌ مستحبّة ليس بواجب وهو سنّةٌ على الكفاية فإن كان المسلِّم جماعة كفى عنهم تسليمُ واحد منهم ولو سلَّموا كلُّهم كان أفضل .] وأما ردّ السلام فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعيَّنَ عليه الردّ وإن كانوا جماعةً كان ردّ السلام فرضُ كفايةٍ عليهم فإن ردّ واحد منهم سقطَ الحرج عن الباقين وإن تركوه كلُّهم أثموا كلُّهم وإن ردّوا كلُّهم فهو النهاية في الكمال والفضيلة , عن عليّ رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال : " يُجْزِىءُ عَنِ الجَماعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أحَدُهُمْ ويُجْزِىءُ عَنِ الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُمْ . رواه أبو داود . وإذا بعث إنسان مع إنسان سلاماً فقال الرسول : فلان يسلّم عليك فيجب عليه أن يردّ على الفور ويستحبّ أن يردّ على المبلِّغ أيضاً فيقول : وعليك وعليه السلام . و إذا سلّم عليه إنسان ثم لقيه على قرب يُسنّ له أن يُسلِّم عليه ثانياً وثالثاً وأكثر . عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " إِذَا لَقِيَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فإنْ حالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَة أوْ جِدَارٌ أوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ . رواه أبو داود. اعلم أنّا مأمورون بإفشاء السلام لكنه يتأكد في بعض الأحوال ويخفّ في بعضها . ونُهي عنه في بعضها فأما أحوال تأكده واستحبابه فلا تنحصر فإنها الأصل فلا نتكلف التعرّض لأفرادها. وأما الأحوال التي يُكره فيها أو يخفّ أو يُباح فهي مستثناة من ذلك فيحتاج إلى بيانها فمن ذلك إذا كان المسلَّم عليه مشتغلاً بالبول أو الجماع أو نحوهما ومن ذلك من كان نائماً أو ناعساً أو مُصلياً أو مؤذناً في حال أذانه أو إقامته الصلاةَ أو كان في حمام أو نحو ذلك من الأمور التي لا يُؤثر السلام عليه فيها ومن ذلك إذا كان يأكلُ واللقمة في فمه فإن سلَّم عليه في هذه الأحوال لم يستحقّ جواباً . أما إذا كان على الأكل وليست اللقمةُ في فمه فلا بأسَ بالسلام ويجبُ الجواب .
الدرس السابع ا
لاستئذان
قال اللّه تعالى : { يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهْلها } [ النور : 27 ] وقال تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطْفالُ مِنْكُمُ الحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كما اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } [ النور : 59 ] و عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال :قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " الاسْتِئْذَانُ ثَلاثٌ فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ " . رواه البخاري ومسلم . و عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَرِ " . رواه البخاري ومسلم . و روي الاستئذان ثلاثاً من جهات كثيرة . والسنّة أن يُسلِّم ثم يستأذن فيقوم عند الباب بحيث لا ينظرُ إلى مَن في داخله ثم يقول : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يجبْه أحدٌ قال ذلك ثانياً وثالثاً فإن لم يجبْه أحدٌ انصرف . عن ربعيّ بن حِراش بكسر الحاء المهملة وآخره شين معجمة التابعي الجليل قال : حدّثنا رجل من بني عامر استأذن على النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو في بيت فقال : أألجُ ؟ فقالَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم لخادمه : " اخْرُجْ إلى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ فَقُلْ لَهُ : قُلْ : السَّلامُ عَلَيْكُمْ أأدْخُلُ ؟ " فسمعه الرجلُ فقال : السلام عليكم أأدخلُ ؟ فأذنَ له النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فدخلَ . رواه أبو داود بإسناد صحيح . وينبغي إذا استأذن على إنسان بالسلام أو بدقّ الباب فقيل له : مَنْ أنتَ ؟ أن يقول : فلانُ بن فلان أو فلانٌ الفلاني أو فلانٌ المعروف بكذا أو ما أشبه ذلك بحيث يحصل التعريف التامّ به ويُكره أن يقتصر على قوله أنا أو الخادم أو بعض الغلمان أو بعض المحبّين وما أشبه ذلك . روى البخاري و مسلم حديثَ أبي موسى لما جلسَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم على بئر البستان جاء أبو بكر فاستأذن فقال : مَنْ ؟ قال : أبو بكر ثم جاء عمر فاستأذن فقال : مَن ؟ قال : عمر ثم عثمان كذلك . وعن جابر رضي اللّه عنه قال : أتيتُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فدققتُ البابَ فقال : " مَنْ ذَا ؟ فَقلتُ : أنا فقال : أنَا أنَا " كأنه كرهها. رواه البخاري ومسلم . ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف إذا لم يعرفه المخاطب بغيره وإن كان فيه صورة تبجيل له بأن يكنّي نفسه أو يقول أنا المفتي فلان أو القاضي أو الشيخ فلان أو ما أشبه ذلك . عن أمّ هانىء بنت أبي طالب رضي اللّه عنها واسمها فاختة على المشهور وقيل فاطمة وقيل هند قالت : أتيتُ النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمةُ تستُره فقال : " مَنْ هَذِهِ ؟ " فقلتُ : أنا أُمّ هانىء . رواه البخاري ومسلم . وعن أبي ذرّ رضي اللّه عنه واسمه جُندب وقيل بُرَيْرٌ بضمّ الباء تصغير برّ قال : خرجتُ ليلةً من الليالي فإذا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمشي وحدَه فجعلتُ أمشي في ظلّ القمر فالتفتَ فرآني فقال : " مَنْ هَذَا ؟ " فقلت : أبو ذرّ . رواه البخاري ومسلم .
الدرس الثامن
الاستغفار
قال اللّه تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعَشِيّ وَالإِبْكارِ } [ غافر : 55 ] وقال تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَللْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ } [ محمد : 19 ] وقال تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً } [ النساء : 106 ] وقال تعالى : { لِلَّذينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بالعِبادِ الَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالقانِتِينَ وَالمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرِينَ بالأسحَارِ } [ آل عمران : 15 - 17 ] وقال تعالى : { وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] وقال تعالى : { وَالَّذينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ؟ وَلَمْ يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 135 ] وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } [ النساء : 110 ] وقال تعالى : { وأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ . . } الآية [ هود : 3 ] وقال تعالى إخباراً عن نوح صلى اللّه عليه وسلم : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] وقال تعالى حكاية عن هود صلى اللّه عليه وسلم : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ . . } الآية [ هود : 52 ] والآيات في الاستغفار كثيرة معروفة ويحصل التنبيه ببعض ما ذكراه , وأما الأحاديث الواردة في الاستغفار فلا يمكن استقصاؤها لكن نشير إلى أطراف من ذلك . عن الأغرّ المزنيّ الصحابيّ رضي اللّه تعالى عنه : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " إنَّهُ لَيُغانُ على قَلْبِي وإني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَوْمِ مِئَة مَرَّةٍ . رواه مسلم . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : سمعتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " واللّه إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأتُوبُ إلَيهِ فِي اليَوْمِ أكثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّة . رواه البخاري . و عن شداد بن أوس رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال : " سَيِّدُ الاسْتغْفارِ أنْ يقُولَ العَبْدُ : اللَّهُمَّ أنْتَ رَبّي لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ وأبُوءُ بِذَنْبي فاغْفِرْ لي فإنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ مَنْ قَالَهَا بالنَّهارِ مُوقِناً بِها فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ موقِن بها فَمَاتَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ فَهُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ " رواه البخاري . و عن ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما قال : كنّا نعدُّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المجلس الواحد مِئَةَ مرّة : " ربّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قال الترمذي : حديث صحيح . و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً وَمِنْ كُلّ هَمٍّ فَرَجاً وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ . رواه أبو داود وابن ماجه . و عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعالى فَيَغفِرُ لَهُمْ . رواه مسلم . و عن أنس رضي اللّه تعالى عنه قال : سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : " قالَ اللَّهُ تَعالى : يا بْنَ آدَمَ إَّنكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ما كانَ منْكَ وَ لا أُبالي يا بْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ يابْنَ آدَمَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرْضِ خَطايَا ثُمَّ أتَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِها مَغْفِرَةً " رواه الترمذي و قال : حديث حسن . و عن ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " مَنْ قالَ : أسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وأتُوبُ إِليْهِ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ " رواه أبو داود والترمذي قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم . ومما يتعلَّق بالاستغفار ما جاء عن الرَّبيع بن خُثَيْم رضي اللّه تعالى عنه قال : لا يقلْ أحدُكم : أستغفر اللّه وأتوب إليه فيكون ذنباً وكذباً إن لم يفعل بل يقولُ : اللَّهمّ اغفر لي وتُبْ عليّ وهذا الذي قاله من قوله : اللَّهمّ اغفر لي وتب عليّ حسن . وأما كراهيته أستغفرُ اللّه وتسميته كذباً فلا نُوافق عليه لأن معنى أستغفرُ اللّه أطلبُ مغفرتَه وليس في هذا كذب ويكفي في ردّه حديث ابن مسعود المذكور قبله . وعن الفُضيل رضي اللّه تعالى عنه : استغفارٌ بلا إقلاع توبةُ الكذّابين ويُقاربه ما جاءَ عن رابعة العدوية رضي اللّه تعالى عنها قالت : استغفارُنا يحتاجُ إلى استغفار كثير . وعن بعضِ الأعراب أنه تعلَّقَ بأستار الكعبة وهو يقول : اللَّهمّ إن استغفاري مع إصراري لؤم وإن تركي الاستغفارَ مع علمي بسَعَة عفوك لعجز فكم تَتَحَبَّبُ إليّ بالنعم مع غِناكَ عني وأَتَبَغَّضُ إليك بالمعاصي مع فقري إليك يا مَن إذا وَعدَ وَفَّى وإذا توعَّدَ تجاوز وعفا أدخلْ عظيمَ جُرمي في عظيم عفوكَ يا أرحم الراحمين . تمت بحمد الله الدروس المختارة و المختصرة من الأذكار النووية للإمام النووي بتاريخ 16/09/1429 هـ الموافق 16/09/2008 م . و صلى الله وسلم على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين و الحمد لله رب العالمين .
بقلم
راجي عفو ربه الأجل
سليمان بن يحيى بن عبد الله الأهدل